اسمه ونسبه الشريف: هو العالم العامل والمرشد الكامل والجهبذ الواصل، السيد الحبيب، الحسيب النسيب، العلم الفاضل اللبيب، العارف الرباني والقطب الصمداني، المشهور بالغوث الثاني، السيد الشريف والعلامة الغطريف، صاحب السر المنيف، شيخ مشايخ البريفكان، وسيد علماء كردستان، صاحب العلم والعرفان، ووارث سر قطب جيلان، وشيخ الإنس والجان، شيخي وسيدي وقرة عيني ومرشدي العارف بالله أبو صافي الشيخ نور الدين، البريفكاني مولداً وأصلاً، الأيتوتي مسكناً ونشأةً، القادري مشرباً، الشافعي مذهباً، الأشعري معتقداً، الحسيني نسباً. وهو ابن السيد عبد الجبار، ابن السيد نور الدين، بن السيد أبي بكر، ابن السيد زين العابدين، ابن الشيخ المرشد العارف بالله تعالى القطب الرباني السيد شمس الدين الخلواتي البريفكاني قدس سره، ابن السيد عبد الكريم، ابن السيد موسى، ابن السيد سليمان، ابن السيد عبد الغني، ابن السيد إسحاق، ابن السيد بابا منصور، ابن السيد الولي الحسيب النسيب العالم الرباني والقطب الصمداني الشيخ المرشد حضرة الإمام السيد حسين الأخلاطي، ابن السيد السند الإمام الأوحد السيد علي، ابن السيد حاجي نظام الدين، ابن الإمام السيد الأوحد الشيخ المرشد السيد أحمد، ابن السيد الإمام زين العابدين علي المشهور بزورداني، ابن السيد صالح الهمداني، ابن السيد يوسف الهمداني، ابن السيد أبي مسلم سليم العراقي الهمداني، ابن السيد أبي يعقوب يوسف ابن السيد أيوب الهمداني قدس سره العزيز، ابن السيد محمد يوسف صدر الدين، ابن السيد حسين جلال الدين، ابن السيد زين العابدين، ابن السيد علي أبي المؤيد المشهور بالوهراة وكذا بشعيب، ابن السيد جعفر أبي الحرث، ابن السيد محمد، ابن السيد محمود، ابن السيد أحمد، ابن السيد عبد الله المنتخب، ابن السيد علي الهادي المختار، ابن الإمام جعفر المصدق ابن الإمام علي الهادي عليه السلام، ابن الإمام محمد الجواد عليه السلام، ابن الإمام علي الرضا عليه السلام، ابن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ابن الإمام محمد الباقر عليه السلام، ابن الإمام السجاد علي زين العابدين عليه السلام، ابن الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا أبو الحسن علي ابن أبي طالب عليه السلام، زوج السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، بنت سيدنا ومولانا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما والده: فهو العارف بالله الشيخ عبد الجبار البريفكاني الخلوتي الحسيني شيخ الطريقة الخلوتية السهروردية، وكان رجلاً صالحاً وعالماً فاضلاً، ورث العلم والمشيخة والسيادة عن أجداده، توفي سنة 1231هـ. وأما أعمامه: فله عمان وهما صالحان فاضلان وهما: السيد الشيخ أبو بكر البريفكاني الخلوتي، والسيد الشيخ شهاب الدين أحمد البريفكاني الخلوتي. وأما إخوته: فله أخوان وهما: الشيخ عبد الله: ولد: (1200هـ - 1786م). والشيخ محمد أمين: ولد: ( 1202هـ - 1788م).
أما زوجته: فقد تزوج الشيخ من السيدة الصالحة حليمة خاتون ابنة الشيخ فيضي الكلي رماني، فرزق منها بثلاث بنات، توفيت سنة:(1286هـ). وأما بناته: فقد رزق الشيخ بثلاث بنات صالحات وهن: السيدة بيروز خانم: وهي الكبيرة من بنات الشيخ، وزوجها من خليفته وابن أخيه الشيخ محمد نوري بن الشيخ عبد الله البريفكاني، والسيدة فاطمة خانم: وهي الثانية من بنات الشيخ، وزوجها من خليفته وابن عمه الشيخ عبد الحميد خان الأتروشي بن الشيخ شمس الدين البريفكاني من ذرية القطب الأخلاطي شمس الدين، والسيدة صافية خانم: وبها كان يكنى فيقال له (أبو صافية)، ونذرت نفسها لخدمته في حياته، ولخدمة تكيته وطريقته بعد وفاته، ولم تتزوج، بل لزمت التكية البريفكانية وأشرفت على رعايتها بعد وفاة أبيها، وبقيت على هذا الحال حتى وفاتها، ودفنت في الغرفة التي دفن بها الشيخ علي الكلي رماني في تكية بريفكان بالقرب من ضريح والدها.
ولادته ونشأته قدس سره العزيز: ولد الشيخ قدس سره في قرية البريفكان كما صرح بهذا في كتابه البدور الجلية، وكانت ولادته على أرجح الأقوال في عام: (1205هـ - 1790) وبهذا القول أخذ أكثر الذين ترجموا للشيخ قدس سره العزيز.
وفي قرية بريفكان نشأ وترعرع الشيخ قدس سره وكانت طفولته في هذه القرية المباركة، ثم شاءت حكمة الله تعالى أن تنتقل أسرته إلى قرية أيتوت وهو طفل صغير، وقيل وهو ابن خمس سنين، وفي أيتوت هذه القرية الصغيرة نشأ الشيخ وترعرع، وألحقه والده بمدارس تحفيظ القرآن الكريم، فحفظه وهو ابن عشر سنين، وهذا من فضل الله تعالى وكرمه على الشيخ، ثم بدأ بأخذ أسس العلم الشرعي والتصوف عن والده الشيخ عبد الجبار البريفكاني، وكذلك أخذ بعض المعارف والعلوم عن عميه الشيخ أبي بكرٍ والشيخ أحمد شهاب الدين، وقد كان لوالده وعميه تأثيراً كبيراً عليه، وقد ظهرت ملامح الصلاح والهداية والرعاية والعناية عليه منذ الصغر، فحبب الله إليه العلم الشرعي، فصار يتردد على علماء عصره لينهل منهم العلوم الشرعية، ثم بعد ذلك تاقت نفسه لتحصيل المزيد من العلوم والمعرفة، ولكن قرية أيتوت ليس فيها ما يطمح إليه الشيخ نور الدين، فقرر السفر والترحال في سبيل طلب العلم، وأعانه والده على ذلك فأمن له كل ما يلزم في سبيل تحقيق غايته.
طلبه للعلم قدس سره العزيز: من فضل الله تعالى على الشيخ نور الدين أن ألقى الله في قلبه وعقله حب العلم، وهذه من نعم الله على العبد، فقد أكرمه الله تعالى بالجلوس على موائد العلم منذ الصغر، فكانت أول خطواته التي قطعها في طلب العلم هو الالتحاق بالكتاتيب القرآنية التي تنتشر في الزوايا والمساجد في تلك البلاد، فأكرمه الله بحفظ كتاب الله تعالى وهو ابن عشر سنين، كما ذكرنا سابقاً، وبعد أن حفظ القرآن الكريم في قرية أيتوت رحل منها إلى مدينة العمادية، ليلتحق بحلقة العلم بين يدي العالم الجليل الفاضل أبي عبد الله الملا يحيى بن خالد المزوري، فلزمه وأخذ عنه شتى العلوم والمعارف، ومن أهم ما تلقاه عنه هو الفقه الشافعي وغيره من العلوم الأخرى، ثم انتقل إلى الموصل، وكان ابن عشرين عاماً، والتحق بالمجالس العلمية في الموصل في ذلك الوقت هو الشيخ عبد الرحمن أفندي بن الحاج محمد الموصلي المعروف بابن الدباغ مفتي الموصل ، فتلقى منه بعض العلوم والمعارف التي كان يدرسها، كما التحق بمجلس العلامة الشيخ حسن الحبيطي الذي كان يقيمه في داره، فلازمه فترة من الزمن وتلقى منه العلم، وكذلك التحق بمجلس الشيخ سليمان الكردي الروبيني المعروف بصوفي الوقت، وكذلك أخذ عن الشيخ ممدوح التلوهي العباسي وهو من أصحاب، كما اتصل بمعظم علماء الموصل المشهورين والذين كانوا معه في حلقات مشايخه، وبعضهم من كبار تلاميذ مشايخه: كالشيخ شهاب الدين أحمد أفندي خياط زادة، والعلامة صلاح الدين يوسف الرمضاني، وكان له علاقة وثيقة بالعلامة الشيخ علي أفندي محضر باشي، فاختلط بهم وانتفع بعلومهم، إضافة لما نهله من مجالس مشايخه الكرام، ودامت فترة إقامته في الموصل ورحلته في طلب العلم قرابة عشر سنين وزيادة، قضاها في طلب العلم والمعرفة، باذلاً في سبيل ذلك كل الجهد والاجتهاد، ولم يشغله شيء عن تحقيق غايته.
يقول الشيخ قدس سره متحدثاً عن نفسه: ولقد كنتُ في زمن الحداثة، وأنا في مقدار العشرين سنة في الموصل، متفقهاً، ذا حظٍ في الفهم والتحصيل، مشتغلاً بالعلوم المتداولة فيها بين العلماء، وقد جرت عليَّ حينئذٍ أمور لا يحصيها كلامي ولا يمليها قلمي، فالفلاح الذي فزت به كان في الصبا، أني كنت ذا حظ وافر، ومع ذلك كنتُ عفيفاً متمسكاً بحقوق الله تعالى، والإقبال عليها، ورعاية حرمات المشايخ الموجودين في الموصل، فلما اشتد عوده، وأتقن العلوم والفنون التي تلقاها من العلماء، ولما رآه مشايخه قد صار مؤهلاً للفتوى والتدريس، أكرموه بالإجازات العلمية في شتى العلوم والمعارف.
سلوكه لطريق التصوف قدس سره العزيز: كان أول شلوك الشيخ قدس سره في الطريقة الخلوتية طريقته والده وأجداده، فقد نشأ في أسرة شريفة النسب يغلب عليها التصوف والعلم، ومن المعلوم أن هذه الأسرة ورثت مشيخة الطريقة الخلوتية كابراً عن كابر، فجدهم الأعلى الشيخ علي الهمداني كان من كبار مشايخ الطريقة الخلوتية، ومن بعده ولده الشيخ حسين الأخلاطي، وظلت هذه الطريقة فيهم حتى وصلت إلى الشيخ قدس سره، فوالده العارف بالله الشيخ عبد الجبار كان آخر شيخ للطريقة الخلوتية السهروردية التي أخذها عن أجداده الكرام، وكان رجلاً صالحاً وعالماً فاضلاً، فتلقى الشيخ نور الدين عنه الآداب والتعاليم الخلوتية التي كان لها الأثر الكبير على نشأته وتربيته وسلوكه، التي جعلت منه طالباً نجيباً وسالكاً صالحاً، كما تأثر بعميه الشيخ أبي بكر البريفكاني والشيخ شهاب الدين البريفكاني، فتلقى عنهم التعاليم والإرشادات في الطريقة الخلوتية الشريفة، وكان شديد التأثر بجده القطب شمس الدين الأخلاطي، حيث كان يتقفى آثاره وتصوفه وأشعاره وشرح الكثير منها، ونال الإجازة الشريفة المباركة في الطريقة الخلوتية السهروردية من والده. ولكن الشيخ نور الدين لم يكتف بما نهله من بركات وأنوار وأسرار الطريقة الخلوتية، وخاصة بعد اختلاطه بتلاميذ الطريقة النقشبندية والقادرية في العمادية والموصل، فتاقت روحه للمزيد من الخيرات والبركات، فاستأذن والده بالسلوك فيها، فأذن له والده بذلك.
وكانت أول صحبة له للشيخ عبد الوهاب السوسي، أحد خلفاء الشيخ خالد النقشبندي قدس سره، فرأى منهم بعض الأنوار والأحوال التي بعثت في داخله الرغبة في سلوكها، وبعد التفكر توكل على الله وسلك الطريقة النقشبندية من الشيخ عبد الوهاب النقشبندي، وعمل بأورادها وأذكارها والتزم بآدابها وبقي فيها فترة من الزمن، ولكن سرعان ما تركها وفارق الشيخ عبد الوهاب وترك صحبته، لأنه لم يجد ضالته فيها. ثم بعد ذلك صار يبحث ويسترشد عن رجل صالح عارف بالله يسلك على يديه الطريق إلى الله تعالى، فشاءت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تجمعه بالشيخ العارف بالله محمود بن عبد الجليل الموصلي القادري، شيخ مشايخ الموصل وشيخ السجادة القادرية، فسلك على يده الطريقة القادرية المباركة، فوجد ما كان يبحث عنه فيه، فلازمه وصحبه وأخذ عنه، فسكنت روحه وتأدبت نفسه، واستأنس به، وانتفع به الانتفاع العظيم الكامل، ومدحه ومدح طريقته في أكثر من مرة وقد ذكرها في البدور في أكثر من موضع.
يقول الشيخ نور الدين قدس سره: إن الطريقة القادرية التي أخذتها من شيخي ومرشدي العارف بالله تعالى الحاج محمود بن الشيخ عبد الجليل الخضري أصلاً والموصلي سكناً من أحسن ما أخذته من الطرق، فإني تلقنت الذكر والخلافة من غيره في هذه الطريقة، غير أنهم لم يقوموا بالطريق كما قام به هذا الشيخ لأن من عاداته وسيره وأخلاقه ما لا تطيقه إلا النفوس القوية، وقد لازمته مدة مديدة، فما رأيته إلا جالساً على الركب، وأطبق على عشرته أهل الموصل والقرى من نواحينا وغيرها، وشاهدت من عاشره كثير التواضع وحسن الخلق لا يؤذي المسلمين.
ثم استئذن شيخه بالخلوة ورجع إلى قرية أيتوت، فبدأ مجاهداته فيها، فانقطع للعبادة واعتزل الناس مدة دامت اثنتي عشرة سنة، وهذه القرية لها ذكريات عظيمة في حياة الشيخ كما ذكر في مواضع كثيرة من كتبه، وقد فتح الله تعالى عليه وهو في قرية أيتوت فتوحات عظيمة، وفي سنة 1232 هـ، خرج من خلوته وقطع عزلته، وتوجه مسافراً لزيارة شيخه العارف بالله الشيخ محمود الجليلي الموصلي القادري في الموصل، فأكرمه الله تعالى في تلك الزيارة بالإجازة والخلافة في الطريقة القادرية وكذلك الطريقة الرفاعية من يد شيخه، ثم رجع إلى موطنه ليتصدر لسجادة الإرشاد القادرية.
يقول الشيخ نور الدين قدس سره: ثم أعطاني الخلافة القادرية والرفاعية وبعدما أخذت الإجازة والأذكار والسنن والعبادات استشرته فيما أفعل في مرحلتي الأولى من التصوف والمشيخة، واستشرته أيضا في حركاتي وسكناتي وسلوكي بين الناس فأعطاني شيخي من أنوار إرشاداته ما كفاني فودعته شاكراً فضله وعدت إلى إيتوت (.
رحلته الشيخ قدس سره العزيز إلى بغداد: وفي سنة 1234هـ اشتاقت روحه لزيارة إمام طريقته ومحبوبه الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، حيث ناداه منادي الشوق لزيارة محبوبه الباز الأشهب، فتوجه إلى مدينة بغداد، دار السلام لزيارته، فسافر إليها مبحراً في نهر دجلة، وبصحبته جمع من أصحابه ومريديه، وكانت نيته في هذه الزيارة العزلة والمجاهدة والخلوة، والعمل بأركان التصوف الحنيف وطمعاً بأن يصطفيه الله تعالى من خواص عباده، وقد ذكر الشيخ بعضاً من أخبار هذه الرحلة العظيمة في كتابه البدور الجلية, ومكث الشيخ في بغداد مدة من الزمن مجاوراً لمقام شيخه وإمامه الباز الأشهب، مجاهداً نفسه بألوان المجاهدات والرياضات، من صمت وجوع وسهر وعزلة، حتى فتح الله تعالى عليه بفتوحات عظيمة وبانت له إشارات كثيرة، وقد صرح بهذا في البدور الجلية، فقال: وجرت وقائع عجيبة تدل على السلطنة الباطنة والخلافة الحقيقية لو أن ما قدمته صح لي من الأركان الأربعة ولكن أين أنا من هذا المقام الأسنى، إذ لا يتأهل له إلا جوهر ألباب الرجال الشجعان وبالله التوفيق وعليه التكلان. وفي أثناء إقامة الشيخ في رحاب الباز الأشهب في بغداد أكرمه الله تعالى بالإجازة والخلافة في الطريقة القادرية مرة أخرى، من يد العارف بالله الشيخ عبد القادر القادري الكيلاني شيخ الحلقة القادرية وسادن مقام الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من ذرية ولده الشيخ عبد الرزاق الكيلاني، ثم بعد ذلك جاء الإذن بالرجوع إلى موطنه، فشد رحاله وتوجه مبحراً إلى الموصل، ومنها إلى قرية أيتوت وقد اكتمل سلوكه واشتد عوده ببركات مشايخه وأجداده.
مجاهاته قدس سره العزيز: لم يختلف مسلك الشيخ نور الدين قدس سره عن مسلك إمام طريقته الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله تعالى عنه، بل تقفى خطى إمامه بقدر المستطاع، وتسمك بالشرع الحنيف، واتبع السنة النبوية الشريفة، وجعل المجاهدة أصلاً من أصول طريقته ومنهجه ومسلكه، وهكذا كان منهج الشيخ عبد القادر الجيلاني كما شهد بذلك العلماء.
يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: كان الشيخ عبد القادر متمسكاً بقوانين الشريعة, يدعو إليها وينفر عن مخالفتها، ويشغل الناس فيها مع تمسكه بالعبادة والمجاهدة، ومزج ذلك بمخالطة الشاغل عنها غالباً كالأزواج والأولاد، ومن كان هذا سبيله كان أكمل من غيره لأنها صفة صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد بدأ الشيخ بالخلوة والمجاهدة منذ صغره فأخذ نفسه بالمجاهدات والخلوات والصوم والعبادة، وكانت أول مجاهداته في ذلك الجهد الذي بذله لحفظ كتاب الله في قرية أيتوت وقد بلغ من العمر عشر سنوات، ثم بعد ذلك ترك الأهل والبيت ورحل إلى العمادية والموصل متحملاً الأعباء وخدمة نفسه وقلة الاهتمام والاعتناء وهو أحوج ما يكون إليه في هذه المرحلة من حياته، ولكن غايته كانت أعلى وأسمى بكثير، وبعد انتهائه من مرحلة التحصيل والتعليم لم يتوقف عند ذلك، بل جهز نفسه ليبدأ مرحلة جديدة من المجاهدة والمكابدة، فسلك الطريقة القادرية من الشيخ الجليلي وهو ابن العشرين، وتلقى عنه التعاليم والإرشادات، وتزود بما يحتاجه، ثم رجع إلى قرية أيتوت ليبدأ مرحلة جديدة خاصة من حياته، كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصية الشيخ نور الدين، بل أهلته ليتولى مشيخة الطريقة القادرية من بعد ذلك، وينال رتبة الإمامة ويصل إلى مقام القطبية، ولقد دامت هذه المرحلة اثنتي عشرة سنة، بدأها بعد سلوكه للطريقة القادرية من يد شيخه الجليلي قدس سره، وانتهت بتشريفه بالخلافة القادرية منه، فكافأه الله عز وجل بما يحب ويرضى بعد أن صدق وأخلص لله في غايته. وكانت هذه المجاهدات في جبال أيتوت ومغاراتها، بعيداً عن رغد العيش وملذات الحياة، حيث كان يتنعم أقرانه بالدنيا، بينما كان هو يتنعم بالخلوة مع ربه والجلوس بين يديه، تؤنسه ظلمة الليل وتعينه طبيعة النهار، حتى صار كأنه جزءٌ من هذه الطبيعة الغناء، التي تبعث في روحه كل حب ورحمة ومودة لخلق الله.
يقول الشيخ محمد نوري القادري الموصلي في شرح الهمزية: فهذا الشيخ رضي الله عنه بلغ من حاله وتجرده أول الأمر أنه بقي اثني عشر سنة بالبراري والجبال بالشتاء جالس على الثلج وبالصيف على الرمضاء تحت الشمس، بعيد عن الأهل والوطن، لا يأوي إلى أحد ولا يلوي إلى سكن قد هجر الخلق كلهم لا يعرفهم ولا يعرفونه وكان الغالب عليه الذلة والمسكنة والانكسار والتواضع وهذا كان دأبه وورده صباحا ومساء ولا يخفى على من نور الله قلبه وشرحه بنور المعرفة ما في هذه الأحوال الشريفة من المزايا والعطايا.
ويقول الشيخ الحسن الحبار في فيض الجمال: إنه بقي في الجبل ومغاراته، ولا يألف الناس حتى أبويه، ولا الناس يقدمون عليه وهو مجذوب، حاكم عليه أنوار حالته ومحبته لله تعالى بالفرار من الخلق ... وعند انتهاء فترة الجذب التي استمرت معه اثني عشر سنة، رجع بعدها إلى الموصل إلى شيخه الحاج محمود عبد الجليل، فكتب له الإجازة العامة للخلافة في الطريقة وكانت عام 1232هـ، وبعدها رجع إلى قريته أيتوت وقام بالدعوة والارشاد والنفع للمسلمين والمريدين.
يقول الشيخ محمد نوري القادري في شرح النونية: وهذا الشيخ رضي الله تعالى عنه لا شك أنه حبيب الله لكثرة طاعته وعبادته لله تعالى ومجاهداته ورياضاته وزهده في الدنيا وتركه لها حتى عزل نفسه عنها وعن زهرتها ولذاتها وشهواتها بحيث كان يغيب عن نفسه وينساها ولم يتعهدها بطعام ولا شراب وربما يبقى الليالي المتتابعة والأيام المتطاولة طاوياً جائعاً ولذلك حصلت له أنواع المكاشفات والمعاريج في العوالم العلويات والسفليات وخرقت له العادات.
ويقول أيضاً: إن هذا الشيخ رضي الله عنه فاق أهل زمانه في حالة طفوليته وشبابه وكبره فإنه منذ بلغ سبع سنين من عمره اشتغل بقراءة القرآن وتعلم الفقه ثم جعل يأخذ نفسه بالرياضة ويجاهدها بأنواع المجاهدات حتى بلغ الغاية القصوى في ذلك، وروي أنه بقي أربعين يوماً في قبة الشيخ علي الهكاري رضي الله عنه وفي مدتها لم يذق طعاما ولا شراباً، وبلغنا قبل وفاته أنه بقي أربعة أشهر لم يذق غير الماء وهذه رتبة عالية لم ينلها إلا الأنبياء وكمل الأولياء.
تصدره للدعوة والإرشاد قدس سره: تنقسم مرحلة الدعوة والإرشاد في حياة الشيخ إلى قسمين وهما: القسم الأول: وهو في أيتوت، وذلك من بعد إجازة الشيخ محمود الجليلي الموصلي له، في سنة 1232هـ، ودامت حتى سنة 1240هـ. القسم الثاني: وهو في بريفكان، وذلك من بعد هجرته إليها في سنة 1240هـ، وحتى انتقاله للرفيق الأعلى في سنة 1268هـ.
أما القسم الأول: فقد بدأ بعد رجوعه من الموصل بالخلافة العامة في الطريقة القادرية من يد شيخه محمود الجليلي الموصلي، حيث أذن له بعد ذلك بالإرشاد والدعوة وإدخال السالكين في الطريقة وأخذ العهد عليهم.
يقول الشيخ الحسن الحبار في فيض الجمال: وعند انتهاء فترة الجذب التي استمرت معه اثني عشر سنة، رجع بعدها إلى الموصل إلى شيخه الحاج محمود عبد الجليل، فكتب له الإجازة العامة للخلافة في الطريقة وكانت عام 1232هـ، وبعدها رجع إلى قريته أيتوت وقام بالدعوة والارشاد والنفع للمسلمين والمريدين وأعطى في هذه المدة كثيراً من قصائده وتآليفه كما هو ظاهر من تاريخ الإنشاء حتى سنة 1240هـ، حين ذهب إلى قرية بريفكان حيث تكية أجداده.
فكان الشيخ يقسم وقته إلى ثلاثة أقسام: قسم: يقضيه بأداء حقوق ربه عليه فيقضي هذا الوقت متعبداً لله عز وجل مؤدياً واجبات وأعمال ووظائف الطريق. وقسم: يقضيه بالكتابة والتأليف، ولقد كانت هذه المرحلة أكثر مرحلة كتب فيها وألف ونظم وصنف، كما يظهر هذا من كلام الشيخ الحسن الحبار وكان من بين ما كتبه هو البدور الجلية في سنة 1238 كما يصرح هو في كتابه. وقسم: يقضيه في الدعوة والإرشاد للمريدين والسالكين.
وكان قد اتخذ زاوية له في قرية أيتوت يستقبل فيها السالكين والمريدين، وفي أواخر سنة 1239هـ، ترك أيتوت وانتقل إلى قرية أتروش وأقام فيها مدة من الزمن، ثم انتقل إلى قرية براش، وفي سنة 1240هـ، رجع الشيخ نور الدين إلى قرية بريفكان ليستقر بها ويبدأ مرحلة جديدة من عمره في الدعوة والإرشاد، وكان أول عمل قام به في بريفكان هو تجديد وتوسيع تكية جده العارف بالله شمس الدين القطب الأخلاطي قدس سره، وأحياها من جديد بعد موات، فأصبحت بعد ذلك الوقت مقصداً للسالكين والطلاب والقاصدين، تقام فيها مجالس العلم وحلق الذكر والخلوات والمجاهدات، وإطعام الطعام، حيث بدأ الشيخ نور الدين بنشر الطريقة القادرية في تلك البلاد على أوسع نطاق بعد أن أسس منهجاً قويماً لقي القبول عند الجميع فأقبل عليه السالكون من كل حدب وصوب، وذاع صيته في البلاد وانتشرت شهرته في الآفاق، فأقبل عليه أهل السلوك وطلاب العلم، وجلس بين يديه العلماء والأولياء.
يقول الشيخ محفوظ عمر بك في الإمام الرضواني: انتهت إليه تربية المريدين في بريفكان، وانتمى إليه خلق كثير من الصلحاء وانعقد عليه الاجماع من المشائخ والعلماء بالتبجيل والاحترام وحكموه فيما اختلفوا فيه ورجعوا إلى قوله، وهيأ الله له أتباعاً أكثر من سبعمائة ألف.
يقول الشيخ محمد النوري في شرح التائية: كان رضي الله تعالى عنه يأتيه الناس من كل فج عميق للاسترشاد وأخذ الطريق عنه حتى فاق نور أي نور إرشاده على نور الشمس والقمر.
ويقول فيها: وأما الرزق المعنوي الذي يفيضه على المريدين والمسترشدين من العباد فظاهر كالشمس في رابعة النهار فقد بلغ من مريديه جم غفير مرتبة الولاية الكبرى فضلاً عن الصغرى.
أحواله ومقامه قدس سره العزيز: أما أحواله قدس سره فليس من السهل الإحاطة بها، فالشيخ من فضل الله تعالى كان صاحب مقام عظيم، وحاله حال عظيم، بل إن أحواله عجب عجاب، فيعجز عن وصفها ذوو العقول والألباب، وسأذكر بعض ما ورد من وصف أحواله على لسان من عاصره وتلقى عنه من أقرب تلاميذه وخلفاءه، لعلنا نقف على ما فيه عبرة لنا، وما فيه تنشيط لهممنا فنقول وبالله التوفيق: إن حال الشيخ نور الدين كان مزيجاً ما بين الجلال تارة، والجمال تارة أخرى، وكل ذلك ممزوج بأحوال الكمال، ويتغير حاله من حال إلى حال حسب مقامه ومكانه وزمانه، فتجده مع أهله وأقاربه في حال، ومع تلاميذه في حال أخرى، ومع العلماء والطلاب والخلفاء في حال، وتجده في نهاره في حال غير حاله في الليل، وليس هذا بغريب على أولياء الله تعالى، فهم أحباؤه جل جلاله وتنزهت صفاته وتقدست أسماءه، وهم ورثة سيد الوجود صلوات ربي وسلامه عليه.
يقول خليفته الشيخ الحسن الحبار في فيض الجمال: وأما بيان حال مقامه وحاله وخلقه فأقول بطريق الإجمال لأني لم يكن معي إذن في بيانها تفصيلاً، إن حاله: الجلوات في الحضرات والخلوات والجلال الصرف تارة والجمال الصرف أخرى، والجلال الممزوج بالجمال الصرف مرة، والجمال الممزوج بنوع جلال أخرى، وكل ذلك بمقتضى الحوادث السمائية والأرضية، وخلقه الكتاب المجيد والسنة النبوية الشريفة، ومقامه: الإستقامة على اتباعهما والعمل بهما وحمل الناس على التمسك بهما ولم ؟
ويقول الشيخ محمد نوري أفندي في شرح النونية: كنت أجالسه مطرقاً بين يديه وفي بعض الأوقات أسارقه النظر فكنت إذا نظرت إلى وجهه المبارك أرى يغشاه نور عظيم يكاد يخطف بصري فأغمض عيني لئلا يذهب عقلي.
ويقول الشيخ إسلام الشوشي: وجبلته طبعت على الحلم والتواضع ومزجت بالكرم والحياء ، وهو أحد من أظهره الله تعالى رحمة للخلق وأوقع عندهم القبول التام والهيبة العظيمة.
ويقول الشيخ محمد نوري في شرح النونية: وهذا الشيخ رضي الله عنه لا شك أنه حبيب الله لكثرة طاعته وعبادته لله تعالى ومجاهداته ورياضاته وزهده في الدنيا وتركه لها حتى عزل نفسه عنها وعن زهرتها ولذاتها وشهواتها بحيث كان يغيب عن نفسه وينساها ولم يتعهدها بطعام ولا شراب وربما يبقى الليالي المتتابعة والأيام المتطاولة طاوياً جائعاً ولذلك حصلت له أنواع المكاشفات والمعاريج في العوالم العلويات والسفليات وخرقت له العادات.
أما مقامه قدس سره فقد أكرمه الله ببلوغ أعلى المقامات، حتى صار قطب وقته وغوث زمانه، ومجدد عصره وقد شهد له بهذا كل من عاصره:
يقول الشيخ محمد نوري في شرح التائية: فهذ الشيخ هو من أكابر الأولياء بل هو قطب وقته، ولا يعرف حقيقته إلا آحاد أفراد الناس بل غالب أصحابه ومريديه لا يعرفون كنهه بل يعتقدون مجرد ولايته فقط وهذا غير كاف بل كان يجب عليهم أن يسلكوا في طريق الرياضة والمجاهدة حتى يحصل لهم ذوق وكشف ويطلعوا على مقام هذا الشيخ ورتبته ومنزلته عند الله تعالى.
ويقول الشيخ محمد طاهر الصائغ: قد نال الشيخ نور الدين مقام الغوثية وسما على سماء ذروة سنامها بدليل قوله رضي الله عنه في شرحه لحائيته: لقد حصل لي بحمد الله تعالى مقام وافر منه أي من مقام الغوثية فأسأل الله تعالى أن يطلعني على ذروته بكرمه ورحمته.
ويقول الشيخ صلاح الدين الحسن الحبار: فقد اصطفى اللهُ بفضله عبده الشيخ نور الدين وجعله غوثاً قبل وفاته بنحو عشرين سنة، وفرداً جاوز مقام القطبية العظمى، وجعل له أتباعاً أكثر من سبعمائة ألف تابع في طريقه التي مَنَّ بها عليه، وقبل وفاته بنحو ثلاثين سنة تقريباً أُمِر وأُذن له في إظهار بعض ما أولاه من النعم والأسرار.
ويقول المؤرخ الكردي أنور المائي في كتابه الأكراد: إذا جاز للفرس أن يفتخروا بمولانا جامي، فللأكراد أن يفتخروا بمولانا نور الدين البريفكاني.
وأما صفته الخلقية قدس سره: فإنه كان متوسط القامة يميل إلى الطول، وكان حنطي اللون مدور الوجه رفيع القد أسود اللحية، واللحية أربعة أصابع ليست بالطويلة ولا القصيرة، وكان ضحكه ابتساماً وصوته ناعماً وإنك لتسمع من صوته حين يقرأ القرآن الكريم صوتاً شجياً، وهو سريع الجواب دون تلكؤ وجوابه شاف يقنع به السائل.
وفاته قدس سره العزيز: كانت وفاة الشيخ قدس سره في سنة 1268هـ، الموافق لعام 1852م، وعلى هذا إجماع المؤرخين، وذكر بعض من ترجم للشيخ أن وفاته كانت في آخر ليلة السبت في أوائل شهر ربيع الثاني من سنة 1268هـ، والموافق لشهر كانون الثاني لعام 1852م، وذكر بعض من ترجم للشيخ أن وفاته كانت في يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الآخر من نفس العام، وهذا يوافق 31/1/1852م، وكانت وصيته أن يتولى غسله وتجهيزه خليفته الملا علي زيد الهلالي، إلا أنه لم يكن حاضراً ساعة وفاته، فأرسلوا في طلبه فجاء ونفذ وصية الشيخ قدس سره.
فغسله وكفنه وجهزه، وتم دفن الشيخ نور الدين في تكيته المباركة الشريفة، في قرية بريفكان المحروسة، وقبره ما زال فيها ظاهر يزار، تظهر عليه الهيبة والجلالة والوقار، يرتاده الزائرون من كل مكان.
هذا ما وفقنا الله عز وجل لتدوينه من سيرة العارف الرباني سيدي الشيخ نور الدين البريفكاني القادري قدس سره العزيز في هذا الكتاب المبارك، وسيرة الشيخ أكبر من أن تكون باباً في كتاب، بل تحتاج لكتاب كامل.وقد وفقنا الله عز وجل لتصنيف كتاب روض الجنان في ترجمة قطب البريفكان، وهو كتاب أفردناه وخصصناه لترجمته قدس سره العزيز، ولعل الله قريباً يوفقنا لإخراجه إلى النور لينتفع به السالكين.
فرضي الله تعالى عنه وأرضاه وعنا به ونفعنا ببركته آمين
المصدر: روض الجنان في ترجمة قطب البريفكان للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري الحسيني
موقع الطريقة القادرية العلية 2025