أنواع الأسانيد عند الصوفية
بقلم مخلف العلي القادري
لقد تميّز التراث الصوفي الإسلامي بعناية فائقة بتوثيق سلسلة التلقي، حفاظاً على نقاء المنهج، واستمرار السند الروحي والعملي بين السالكين ومشايخهم، وقد عرف الصوفية عدداً من أنواع الأسانيد التي تمثل أوجه التلقي والتزكية، وتنقل النور من قلب إلى قلب، ومن سرّ إلى سرّ، ومن حال إلى حال. ويمكن تصنيف هذه الأسانيد إلى الأنواع التالية:
أولاً: سند الصحبة:
ويُعدُّ هذا النوع من أقدم الأسانيد وأعلاها رتبة، بل هو أصل الأصول، وأساس الطريقة الصوفية، إذ به تُستمدّ أنوار التربية والسلوك، فالصحبة في عرف القوم ليست مجرد مصاحبة ظاهرية، بل هي معاشرة روحية تقوم على الانفعال والتلقي والتزكية، وتتأسس على مشهد عملي حيّ تنتقل فيه المعاني قبل الألفاظ، والأحوال قبل الأقوال، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[التوبة: 119].
وروى ابن أبي الدنيا في الإخوان (ص94) عن الحسن، قال: قالوا: يا رسول الله، أي الأصحاب خير؟ قال: «صاحب إذا ذكرت الله تبارك وتعالى أعانك وإذا نسيته ذكرك» . قالوا: يا رسول الله، دلنا على خيارنا نتخذهم أصحابا وجلساء قال: «نعم الذين إذا رؤوا ذكر الله»
وقد أسّس لهذا السند ما كان من صحبة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد صحبوه في القول والعمل والحال، فربّاهم وربّوا من بعدهم، وبهذا نشأت سلسلة الصحبة، التي بها توارث أهل الله علوم القلوب وسرائر الإخلاص والتزكية، ومن يقرأ كتب التراجم والطبقات، لا يكاد يمر على ترجمة وليّ أو إمام في التصوف إلا ويجد صيغة: صحب فلاناً، وصحبه فلانٌ، في دلالة واضحة على قيمة الصحبة عند القوم، وكونها طريق التلقي وشرط الارتقاء في مقامات السلوك.
والصحبة ليست مجرد حضور دروس أو لقاءات عابرة، بل هي ملازمة حال، واستمداد سرّ، ومشاهدة سلوك، وقد أشار أهل الطريق إلى أن الصحبة تُورث أحوالاً لا تنال بكثرة الأقوال، وأن "النظر إلى وجه الصالحين عبادة" لما يحمله من أسرار التزكية بالتجلي.
ومن هنا، كان سند الصحبة هو السند العريق، المتصل بالحضرة النبوية الشريفة، إذ أن الصحابة الكرام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جاء التابعون فصحبوا الصحابة، ثم تابعوهم بإحسان، وهكذا دواليك، حتى امتدت هذه السلسلة المباركة إلى مشايخ الطرق الصوفية جيلاً بعد جيل، فكان سند الصحبة هو الجامع بين العرفان والعلم، وبين الظاهر والباطن، وبين الشريعة والحقيقة.
ثانياً: سند التلقين:
يُعدُّ سند التلقين عند السادة الصوفية من أخصِّ الأسانيد وألطفها أثراً، بل هو في نظر أهل السلوك كالسلك الموصل بين القلب والعقل، وبين المريد والمراد، وبين الأرض والسماء، فهو الحبل النوراني الذي ابتدأ من نور الله تعالى، وانتقل عبر الأمين جبريل عليه السلام إلى قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم منه إلى خواص أصحابه، لا سيما باب مدينة العلم، الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم استمر نوره في صدور الأولياء، لا ينطفئ على تعاقب الدهور، ولا يبهت مهما اختلطت الأصوات.
والمراد من "سند التلقين" هو تلقين ذكر الله تعالى، وتحديداً كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، التي يُغرس بها في قلب السالك أول بذرة من نور، فينبت بها حب الله، وتشرق روحه بالأنس، وتتهيأ نفسه للدخول في مقامات الذكر والخشوع والمراقبة.
وقد جرى عمل أكثر الطرق الصوفية على تلقين كلمة التوحيد، في حين اختصت بعض الطرق – كالنقشبندية – بتلقين الاسم المفرد (الله)، وذلك بحسب سر كل طريقة وسندها، واستعداد المريد وهمته. ويرى أهل التزكية أن هذا التلقين ليس مجرد تعليم باللسان، بل هو نفثٌ روحيّ، وبثٌّ نوريّ، يتجاوز السمع إلى القلب، ويقرع باب السرّ، ومن ثمّ، فإن الشيخ حين يلقّن المريد، كأنه يغرس فيه مفتاح الوصال، ويدخله في سلك المحبين.
ويستند القوم في مشروعية التلقين إلى عدد من الآثار النبوية والآثار السلفية، وإن لم يكن بعضها على شرط المحدثين في الصحة، فإنهم يعملون بها في باب الفضائل والتربية الروحية، إذ إن "ما لا يُعارض الأصول يُعمل به في السلوك"، كما جرى عليه جمهور أهل الطريق، ومن أهم النصوص الواردة في ذلك:
حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، الذي أخرجه الإمام أحمد والطبراني والبزار عن يعلى بن شداد قال: حدثني أبي شداد بن أوس رضي الله عنه ؛ وعبادة بن الصامت حاضر يصدقه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل فيكم غريب ؟" ـ يعني من أهل الكتاب ـ فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب فقال: "ارفعوا أيديكم وقولوا: لا إله إلا الله"، فرفعنا أيدينا وقلنا: لا إله إلا الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله ؛ اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وإنك لا تخلف الميعاد"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أبشروا فإنَّ الله قد غفر لكم.
حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي أخرجه ابن عساكر في معجمه، والديلمي في مسند الفردوس والقضاعي في مسند الشهاب، وأبو نعيم في حلية الأولياء وغيرهم عن أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حدثني جبريل عليه السلام، قال: يقول الله تعالى: «لا إله إلا الله حصني، فمن دخله أمن من عذابي». وفي رواية: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي». وفي رواية: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني، من جاءني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله بالإخلاص دخل في حصني، ومن دخل في حصني أمن من عذابي».
حديث الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو حديث معمول به عند القوم مع انه لم يثبت في كتب المحدثين وهو ما روي عن أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قلت: يا رسول الله، دلني على أقرب الطرق إلى الله تعالى، وأسهلها على عباده، وأفضلها عند الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا علي، عليك بمداومة ذكر الله تعالى في الخلوة»، فقال علي رضي الله عنه: هذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مه يا علي، لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله الله»، فقال علي: كيف أذكر يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: «غمض عينيك واسمع مني ثلاث مرات»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لا إله إلا الله ثلاث مرات»، وعلي يسمع منه، ثم قال علي، كرم الله وجهه: «لا إله إلا الله ثلاث مرات والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع» .
وللتلقين عند القوم آداب لا مجال لذكرها هنا، لكن التلقين يعتبر أهم شيء بين الشيخ والمريد وعليه يقوم طريق السلوك، ولذا قالوا: "من لا تلقين له، فلا طريق له". وهو مبدأ رمزي يعني أن باب الذكر لا يُفتح بغير إذن، والإذن لا يُمنح إلا لمن صدق في الطلب، والتلقين هو شهادة الصدق تلك، وعلامة الدخول في سلك السالكين.
ثالثاً: سند الخرقة:
واعلم أن سند الخرقة هو أحد أوجه الاتصال الروحي والتسلسل السندي في الطرق الصوفية، ويُقصد به الإذن الصوفي الذي يُعطى للمريد عند بلوغه مرتبة معينة في السلوك، ويُرمز إليه بإلباسه خرقة أو عباءة أو وشاحًا مخصوصًا من شيخه، وتكون هذه الخرقة علامة على انتقال السرّ، وتولّيه طريق التربية والإرشاد، أو انتقاله إلى درجة أعلى من المجاهدة والصفاء.
فالخرقة ليست مجرد لباس رمزي، بل هي أثر باطني وسند معنوي، تنتقل به بركة السلسلة الصوفية من الشيخ إلى المريد، كما تنتقل الإجازة العلمية في الحديث أو القرآن، وتُعدّ الخرقة رمزًا للبيعة الروحية، والولاء لطريق القوم، والاستعداد لحمل الأمانة والتمثيل للتصوف قولاً وفعلاً، وهو أكثر الأسانيد التي درجت عند القوم بعد القرن الثالث الهجري، بل وصار هو السند المعتمد عندهم.
ويرى الصوفية أن سند الخرقة سلسلة متصلة ترجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يروون أن النبي ألبس الإمام عليًا خرقة، ومنه انتقلت إلى الحسن البصري، ثم توالت بالسند حتى بلغت شيوخ الطرق المتأخرة، كما لبس منه الفاروق عمر والصديق أبو بكر وغيرهم لبس منهم، ولهذا يُقال: "فلان أخذ الخرقة عن فلان بسند متصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم"، تمامًا كما يُقال في الحديث: "حدثنا فلان عن فلان.
رابعاً: سند العهد والبيعة:
ويُعدّ سند العهد والبيعة في السلوك الصوفي من أسمى اللحظات وأجلّها قدراً، فهو الميثاق الذي يُبرم بين الشيخ والمريد، والعهد الذي تنعقد به الرابطة الروحية بين القلبين، إيذاناً ببدء السير في طريق الله تعالى. وليس العهد عند القوم مجرد كلمات تقال، بل هو وثيقة نورانية، تُسجَّل في صحائف الأرواح قبل أن تُدوَّن في سجل الزمان.
والأصل فيها قوله تعالى في سورة الفتح: ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم﴾. فالبيعة أصلٌ شرعي راسخ، ثابت في الكتاب والسنة، وقد بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على الإسلام والطاعة والجهاد والصدق، كما في بيعة العقبة وبيعة الرضوان، وغيرها، فصارت البيعة بذلك مظهراً من مظاهر العهد الصادق في الطريق إلى الله، وعهداً بين القائد والأتباع على النصرة والثبات.
أما في التصوف، فإن البيعة لم تكن في بدايات الطريق الصوفي من لوازمه، بل كان الاعتماد على الصحبة والتلقي والتزكية من غير صيغة معلنة. غير أن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه – تاج الأولياء، وإمام أهل الطريق – كان أول من جعل البيعة نظاماً معهوداً وأساساً لدخول السالك إلى الطريقة، لما رأى من حاجة الزمان إلى الانضباط في السلوك، ومأسسة التربية الروحية، ومن هناك انتشرت البيعة بين الطرق الصوفية كافة، وأصبحت فاتحة الطريق، ومفتاح الدخول إلى رحاب السلوك، إذ بها يتحول الإنسان من حال التردد والتفتيش إلى حال الإقدام والتكليف، ومن التردد على أبواب المعرفة إلى الثبات في حضرة التزكية.
وتتضمن البيعة الصوفية عادة ثلاثة أركان رئيسة:
ولما كانت البيعة عهداً لا يُنقض، ورباطاً لا يُستهان به، كان أهل الطريق شديدي التحري في إجرائها، فلا يبايعون إلا بعد التمحيص، ولا يقبلون المريد إلا بعد الاختبار، لأن الدخول في الطريق ليس شأناً هيّناً، بل هو ميثاق مقدّس.
ولما اتسعت الطرق وتكاثر المريدون، صار للشيخ أن يُجيز بعض خلفائه بإعطاء العهد والبيعة لغيرهم، فكان ذلك امتداداً لسند البيعة، وظهوراً لما يسميه القوم "القبضة الروحية"، وهي اللحظة التي يقبض فيها الشيخ على يد المريد، فينشأ من هذه القبضة نور معنوي وسر إلهي، يربط بين الأرواح كما تربط العقود بين الأطراف.
خامساً: سند الإجازة في الطريق:
يُعدّ سند الإجازة في التصوف من أعمدة البناء الروحي، وختم الطريق، وبوابة المشيخة، وهو إذنٌ مكتوبٌ، أو مشافهٌ، يحرره الشيخ لمريده، يشهد فيه بأنه قد بلغ مبلغ الرجال، وتهيأ لحمل أمانة الإرشاد، والتربية، والخلافة الروحية، فلا تُمنح الإجازة إلا بعد تحقق، ولا تُعطى إلا لمن ارتقى، وصفت مرآة قلبه، واتحد سره بسر شيخه، وتم له التخلق بمقامات الطريق وآدابه.
وحقيقة الإجازة عند الصوفية هي شهادة معنوية مكتوبة أو قولية، تتضمن إذناً للمريد بالتصدر للتربية، نيابةً عن الشيخ، وتعني أنه صار مؤتمناً على السرّ، مؤهلاً لتلقين الأوراد، وإلباس الخرقة، وإعطاء العهد والبيعة، وتربية المريدين بالصحبة، بل والجلوس على كرسي المشيخة متى استقل بطريقته، أو وُكِّل بها.
واعلم أن الإجازة في حقيقتها إنما هي مفتاح الحضرة النبوية؛ لما تمثله الإجازة من وراثة معنوية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التربية والإرشاد، كما أنها مفتاح والحضرة القدسية؛ لما تفتحه من أنوار الاتصال بالحق تعالى عبر سلسلة النور.
وللإجازة في العرف الصوفي قسمان مشهوران:
واعلم أن الإجازة ليست عطية مجاملة، ولا توقيعاً فارغاً، بل لها ضوابط دقيقة، وشروط صارمة، من أهمها: أن يثبت تحقق المريد بمقامات الطريق من توبة، ومراقبة، وصدق، وتواضع، وسكون في النفس، وأن تثبت صلته الروحية بشيخه، وأنه تلقى عنه بالصحبة، وتلقين الأوراد، وأنه صاحب حال وذوق، وأن يشهد الشيخ له بالأهلية، صراحةً أو ضمناً، أو يُحرِّر له الإجازة بخط اليد أو بوسائط مقبولة، وألا تكون الإجازة سلعة، أو غنيمة دنيوية، أو تذكرة جاه ومقام.
ولذا قال بعض السادة: من أُجيز قبل أوانه، ضيّع الطريق وأهانه، ولهذا جرت عادة المشايخ ألا يُجيزوا إلا بعد سنين، ومراقبة، واختبار حقيقي في طهارة القلب واستقامة الظاهر والباطن.
غير أن من مصائب الطريق في زماننا – كما أشار غير واحد من أهل التحقيق – أن الإجازة أصبحت تُعطى بلا استحقاق، وتُحرَّر بغير تحقق، فانتشر المدّعون، وتكاثر المتصدّرون، وساد الخلط بين إجازة البركة وإجازة التسليك، حتى ضاع نور الإجازة بين سوق الطمع، ورياء التصدر، ومظاهر الوراثة الشكلية.
وقد نبّه أهل الله إلى خطورة ذلك، فقال بعضهم: ليس كل من أُجيز شيخاً، وليس كل من كتب له سندٌ صار وريثاً، فالإجازة سرّ، ومن لم يتحمل سرّها احترق بها."
نسأل الله أن يُعيد للتصوف عزه، وللإجازة حرمتها، وأن يرزقنا الصدق في السلوك، والتأدب في السير، والوفاء بالعهد، والوقوف على أعتاب القوم دون دعوى ولا تصدر.
سادساً: سند الأوراد:
واعلم أن سند الأوراد هو أحد أرقّ الأسانيد الصوفية وأجلّها أثراً، إذ هو مفتاح الدخول على الحضرة، ومجلى التزكية العملية، وميدان الترويض الروحي، فهو ذلك السند النوراني الذي يتصل فيه الورد من قلب إلى قلب، ومن سر إلى سر، حتى يبلغ الحضرة المحمدية الشريفة، أو أحد أئمة الطريق ممن ورثوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقامات الذكر وأسرار القرب.
والورد في اصطلاح القوم ليس مجرد دعاء أو ذكر، بل هو تربيةٌ وأدب، وموعد يوميّ بين العبد وربه، به يفتتح اليوم ويختم، وبه يُستجلب النور، وتُستفتح الفيوضات، ويُستدعى الوصل.
وقد جرى عند أهل الطريق أن يُقسّم سند الأوراد إلى نوعين، كل منهما يحمل لوناً من الإذن والتلقي:
كما جرت العادة عند بعض الطرق الصوفية أن تقسم الأوراد إلى قسمين رئيسين:
ولكل من هذين القسمين إذنٌ خاصٌ، لا يجوز الخلط بينهما، ولا التعدي من أحدهما إلى الآخر بلا إذن صريح، فمن أُذن له بالورد العام لا يجوز له أن يتعاطى الأوراد الخاصة، لأن في ذلك تجاوزًا لأدب الطريق، وتعديًا على مراتب السلوك.
ويُتبَع هذا التقسيم ما سبق ذكره في أنواع الإجازة، فقد يُجيز الشيخ مريده بإجازة قراءةٍ فقط، أو بإجازة قراءةٍ وتلقين في الأوراد العامة والخاصة معًا، بحسب ما يراه من أهلية واستحقاق في السالك.
وهنا لابد من التنبيه إلى خطورة تجاوز الإذن، وقد شدد أهل الله على أن إعطاء الأوراد لا يجوز إلا بإذنٍ صحيحٍ موصولٍ بالسند، إذ إن الورد بلا إذن، كدواء بلا وصفة، وقد يضر أكثر مما ينفع. قالوا: من أعطى ورداً بلا إذن، فكأنما نفخ في رماد، لا نور فيه ولا حرارة، وذلك لأن نورانية الأوراد ليست في الألفاظ، وإنما في الأذن المتصل بالسلسلة، الممتدة من الأرض إلى السماء، من قلب الولي إلى حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن حضرته إلى نور الله جلّ جلاله.فالورد الذي لا يُؤخذ من شيخ مأذون يفتقد تلك الروحانية، وذلك الحبل النوراني الذي يجعل الذكر نافذاً إلى القلب، مشرقاً في الجوارح، باعثاً على التوبة والمراقبة والمجاهدة.
واعلم أن هي الأوراد مفاتيح الواردات، وقد أجمع القوم أن الأوراد هي مفاتيح الواردات، فقالوا: من لا ورد له، لا وارد له؛ لأن الذكر هو الباب، والورد هو الطرق، والورد المأذون هو الطريقة التي تؤهل المريد لتلقي الفيض، والاستمداد من الحضرة الإلهية، فمن لازم الورد بحضور واستحضار، فتح له الباب، وذاق من الوارد ما لا يُحكى ولا يُدرك بالعبارات.
ولذا كان من أدب السالك ألا يبدأ ورداً إلا بإذن، ولا يُعطيه إلا بإذن، لئلا يقطع الطريق على نفسه وغيره، ويهتك حرمة الذكر وأسرار الطريق.
موقع الطريقة القادرية العلية 2025