🆕 جديد الموقع

📰 الشيخ عبيد الله القادري

📁 القسم:
✍️ الكاتب: مخلف العلي القادري
📅 التاريخ: 2025-08-21
👁️ عدد المشاهدات: 820

الشيخ عبيد الله القادري الحسيني

ومن أبرز مشايخ الطريقة القادرية البريفكانية العلية، والذين أظهر الله بهم الطريقة في هذا العصر، سيدي وشيخي السيد الشريف العارف بالله الشيخ عبيد الله القادري الحسيني نقيب السادة الأشراف في سورية، ابن العارف بالله الولي الكبير الشيخ أحمد القادري الحسيني، ابن الشيخ محمد الباقري القادري الحسيني، وقد سبق ذكر نسبه، نفعنا الله تعالى ببركته، ووالدته هي السيدة الشريفة غزالة بنت العارف بالله السيد الشريف الشيخ عثمان من بيت البوب.

ولد الشيخ عبيد الله في بلدة عامودا، وكانت ولادته سنة (1363هـ-1944م) ، وكان أصغر أولاد أبيه، وكان والده الشيخ أحمد قد تجاوز عمره الثمانين سنة عند ولادته، وسماه عبيد الله على الشيخ عبيد الله البريفكاني ابن شيخه الشيخ نور محمد البريفكاني، وقيل على أحد مشايخ عامودا وهو الملا عبيد الله الهيزاني الذي أسس المدارس الدينية في عامودا المتوفى سنة (1929م).

نشأ الشيخ عبيد الله وترعرع في بلدة عامودا، في ظل أسرة كريمة عرفت بالالتزام بتعاليم الدين وعرفت بالسيادة والمشيخة، تحت كنف والده الشيخ أحمد القادري، شيخ الطريقة القادرية العلية ونقيب أشراف الجزيرة، وبرعاية والدته السيدة الشريفة غزالة، التي أولته كل اهتمامها لتربيه أحسن تربية، كما كان يلقى اهتماماً ورعاية من قبل أخواته فهو الصغير المدلل كما يقولون.

فلما كبر قليلاً صار يتردد على مجلس والده الشيخ أحمد، وتولدت لديه الرغبة بملازمة مجلسه قدر المستطاع ، ولقد سمعت من الشيخ عبيد الله أن والدته رحمها الله تعالى كانت تحاول منعه من الخروج ليلاً  إلى مجلس والده لصغر سنه، فينتظر حتى تغيب عينها عنه فيخرج مسرعاً للتكية حيث مجلس والده، وكانت أحياناً تضع له على الباب البصل والثوم لتمنعه من الخروج؛ لأنه كان لا يحب رائحتهما، فهو لم يأكل البصل والثوم منذ صغره، وهذه من خصائص الشيخ التي اختصه الله عز وجل بها، فقد عاش ثمانين سنة ولم يأكلهما أبداً، وكان أحياناً يخرج إلى مجلس والده برفقة أخيه الشيخ سيد محمد قدس سره، فقد كان يحبه كثيراً.

وفي سن السادسة من عمره ألحقه والده بالكتاتيب في عامودا، فتعلم القراءة والكتابة، وقراءة القرآن الكريم، ولما كبر قليلاً وضعه والده بين أيدي العلماء والمشايخ في عامودا؛ ليتلقى العلوم الشرعية على أيديهم، كالملا محمد عبد اللطيف إمام الجامع الكبير، والملا عبد الحليم إسماعيل إمام جامع الأحناف، كما تلقى على يد غيرهم من المشايخ الأفاضل في عامودا وخاصة أخيه الشيخ سيد محمد، الذي يعتبر شيخه الأول، بل كان في مقام أبيه فيما بعد، كما انتفع كثيراً من أبناء عمومته وأقاربه من العلماء الذين يجالسهم غالب وقته.

وبقي الشيخ مثابراً على التعلم في علوم الشريعة، مع ملازمته لمجلس والده حيث كان يتلقى منه علوم التصوف والسلوك، وكان ينتفع بمجالسه التي لا تخلو من العلماء والأولياء والسادة والمشايخ، وسلك الطريقة القادرية العلية على والده منذ الصغر وبدأ العمل بأورادها، وخاصة بذكر التوحيد والأنفس السبعة التي أعادها مرات عديدة، تحت إشراف والده، وكان والده الشيخ أحمد شديداً بتربيته، فكان يأخذه بالشدة والعزائم، ولقد ظهرت عليه معالم الصلاح منذ الصغر، فكان والده كلما يراه يقول: «إن ابني هذا سيكون له شأن عظيم»، وكان يناديه مرحباً بالشيخ الكبير، ولقد صدقت فراسة الشيخ الأخضر في ولده فكان كما قال.

ثم بعد ذلك بدأ يميل إلى العزلة والخلوة والانقطاع إلى الله في سبيل تزكية النفس، والتقرب من الله عز وجل، متأثراً بوالده الشيخ الأخضر الذي كانت حياته كلها في الخلوات والمجاهدات، وكانت التكية القادرية لا تخلو من المريدين الذين يمارسون الخلوة والمجاهدة، فأراد سيدي الشيخ عبيد الله أن يسير على نهج أبيه، ولكن والده كان يمنعه من الخلوة، لصغر سنه، فهو لم يبلغ الحلم بعد ولم يكمل الثانية عشر من عمره، وجعله يشتغل بالأذكار والأوراد دون خلوة.

مجاهداته وخلواته: بعد أن توفي والده الشيخ أحمد في أواخر عام (1954م) آلت مشيخة الطريقة إلى أخيه الكبير الشيخ سيد محمد القادري، والذي صار شيخه ومرشده بعد والده، بناء على وصية الشيخ الوالد، الذي أجاز الشيخ عبيد الله الإجازة الشفهية قبل موته، وأوكل أمره إلى أخيه الشيخ سيد محمد ليتابع سلوكه وتربيته.

حدثني شيخي عبيد الله قدس سره فقال: طلبني والدي الشيخ أحمد قبل وفاته بحضور أخي الشيخ سيد محمد، فأجازني بالطريقة القادرية الإجازة الشفهية، وأمرني أن أتابع السير والسلوك على يد أخي الشيخ سيد محمد، ثم قال لي الشيخ الوالد: فإذا آن الأوان سيجيزك الشيخ محمد الإجازة الكاملة، وهنا بدأت مرحلة جديدة من حياة الشيخ عبيد الله قدس سره العزيز، وهي مرحلة السلوك والمجاهدات والخلوات والرياضات، وكانت أول خلوة للشيخ قدس سره بعد زواجه، وكانت هذه الخلوة سنة وشهرين، وكانت بخلوة التوحيد والأنفس السبعة، وتوالت الخلوات والرياضات على يد أخيه الشيخ سيد محمد، الذي اهتم بأخيه اهتماماً كبيراً، وفرغه للسلوك وحمل عنه جميع الأعباء الأخرى، المتعلقة بالتكية والعائلة والأرض والزراعة.

وكانت بداية خلواته في التكية القادرية، في غرفة والده وهي غرفة تحت الأرض، كان يتعبد فيها والده، فاتخذ منها الشيخ عبيد الله مكاناً لخلوته، فكان ينقطع فيها الأيام والليالي، والشهور الطوال، وبقي على هذه الحال إلى عام (1960م)، عندما تلقى الإجازة من أخيه الشيخ سيد محمد قدس سره، ثم بعد ذلك خرج إلى العراق قاصداً بغداد حيث مرقد معشوقه وحبيبه الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه، ومكث هناك ستة أشهر وهو يجاهد نفسه في الحضرة القادرية المباركة، كان فيها صائماً قائماً ذاكراً عابداً لله، تاركاً للأهل والزوجة والولد، والشهوات والملذات، فأفاض الله عليه من الخيرات والبركات، ورزقه الله الوصل والوصال، ثم رجع منها بأمر الشيخ عبد القادر قدس سره العالي، بعد أن نال الخير والبركة والفتح من روحانيته.

وبعد رجوعه من بغداد بدأ يدخل الخلوة تلو الخلوة برعاية أخيه وشيخه سيد محمد قدس الله سره، وكانت غالب خلواته في حجرة والده في التكية، وتارة يدخلها في قرية حطين حيث كان يدخل والده بعض خلواته، وتارة في البرية، وبقي على هذه الحال من المجاهدة فترة طويلة دامت قرابة العشرين سنة، بدأت في عام (1960م)، وانتهت في عام: (1980م)، كلها قضاها مجاهداً نفسه في سبيل الله يسعى في تزكيتها، ولم تكن هذه المدة متواصلة، بل كان يخرج بين الفينة والأخرى إلى بيته وأهله وزوجته، ثم يعيد الكرة من جديد، وفي هذه الفترة دخل خلوة دامت لسنتين، وأخرى دامت سنة وشهرين، وعدة خلوات لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام، والكثير من الخلوات الأربعينية والسبعينية، وغيرها من الخلوات، وبعضها شهراً وشهرين، والعديد من الخلوات التي مدتها سبعة أيام أو أكثر، وقام خلال هذه الفترة بزيارة بغداد والبريفكان عدة مرات، أضف إلى ذلك زيارته لبيت الله الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم التي لم ينقطع عنها في كل عام تقريباً.

وكما سمعت منه قدس الله سره أنه حج بيت الله الحرام أكثر من ست وثلاثين مرة في حياته، عدا الزيارات والعمرات إلى المدينة النبوية، وكان من عادته في أغلب حجاته إلى بيت الله الحرام، أنه كان يذهب إلى الحجاز في شهر رمضان، ويمكث هناك حتى موسم الحج، فكان يقضي هذه المدة من الزمن معتكفاً ذاكراً عابداً، حتى يحين موسم الحج فيحج ثم يرجع لبلده، وقد لازم هذه العادة سنين طويلة، ثم أكرمه الله سبحانه بأن جاور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في عام: (1986م)، فاعتكف في المسجد النبوي داخل غرفة في جدار المسجد، ثمانية أشهر كان ورده دلائل الخيرات، وكان يقرؤه اثنتي عشرة مرة في اليوم، متعبداً لله سبحانه وتعالى بكافة أنواع العبادات.

وبقي الشيخ قدس سره العزيز على هذه الحال من المجاهدة مدة طويلة من الزمن، كلما خرج من خلوة دخل أخرى، حتى فتح الله تعالى عليه، وأفاض عليه من أنواره وبركاته، ولم يتوقف عن المجاهدات والخلوات إلا بعد أن آلت إليه مشيخة الطريقة القادرية بعد مرض أخيه الشيخ سيد محمد القادري، فكان لابد من التفرغ للطريقة والتكية بعد أن صار من أعلام المرشدين الكاملين في زمانه، وقد أيده الله وأنعم عليه بإظهار الخوارق على يده، مؤيدة لنشر طريقته.

ورغم انقطاعه عن الخلوات قدس سره، غير أنه لم يترك المجاهدة والعبادة، بل كان خارج الخلوة كأنه في خلوة، لا يفتر لسانه عن الذكر، ولا يترك الصيام ولا القيام ولا التعبد، وصار ينقطع إلى خلواته بالساعات والليالي، في التكية القادرية مع تصدره للمشيخة والإرشاد ومتابعة شؤون الطريقة والتكية والمريدين.

وبدأ في هذه المرحلة بإدخال المريدين في الخلوات والرياضات، ويسير بهم على هذا المنهج، ويكاد يكون الوحيد من مشايخ الطرق في سوريا وغيرها من يحافظ على الخلوات والمجاهدات والرياضات التي هي أصل الطريق، فقد أولاها الشيخ اهتماماً كبيراً وقد أدخلني الخلوة من أول يوم بايعته.

وكان يجاهد نفسه أثناء الخلوات فلا ينام إلا غلبة، ولا يأكل إلا فاقة، ويسهر الليالي الطوال في المجاهدة والعبادة، وكان يربط شعره بحبل ويربطه بالسقف؛ حتى ينبهه إذا نام دون إرادته، وكان إذا دخل الخلوة الأربعينية كان غذاؤه فيها كلها عشر تمرات فقط، وقد حدثنا مرة أنه ذهب إلى الصحراء قاصداً الانقطاع إلى الله في خلوة، فأخذ معه رغيفاً واحداً وعاد بعد سبعين يوماً ومعه نصف الرغيف. وكان من عاداته قدس سره أنه كان يذهب إلى الحجاز في شهر رمضان، ويمكث هناك حتى موسم الحج، وقد لازم هذه العادة سنين طويلة. وبقي على هذه الحال مدة طويلة من عمره، كلما خرج من خلوة دخل أخرى، حتى فتح الله تعالى عليه، وأفاض عليه من أنواره وبركاته.

وكان يدرب أبناءه وخلفاءه على هذا المنهج وكذلك كل السالكين عنده، ويكاد يكون الوحيد من مشايخ الطرق في سوريا من يحافظ على الخلوات والمجاهدات والرياضات التي هي أصل الطريق كما ذكرنا.

أما إجازته في الطريقة القادرية: فقد كانت أول إجازة للشيخ عبيد الله قدس سره العزيز في الطريقة القادرية العلية من والده الشيخ أحمد القادري قدس سره العزيز، فقد أجازه قبل وفاته بفترة قصيرة، وذلك في عام (1954)، وكانت إجازة شفهية، وأمره أن يتابع سيره وسلوكه على يد أخيه الشيخ سيد محمد قدس سره، حتى يكون مؤهلاً لحمل هذه الأمانة العظيمة، كما أمر الشيخ سيد محمد بالاهتمام والرعاية بأخيه.

يقول الشيخ عبيد الله قدس سره: «طلبني والدي الشيخ أحمد قبل وفاته بحضور أخي الشيخ سيد محمد، فأجازني بالطريقة القادرية الإجازة الشفهية، وأمرني أن أتابع السير والسلوك على يد أخي الشيخ سيد محمد، ثم قال لي الشيخ الوالد: فإذا آن الأوان سيجيزك الشيخ محمد الإجازة الكاملة»، فامتثل لأمر والده وتابع سيره وسلوكه على يد أخيه الشيخ سيد محمد قدس الله سره، وبدأ بالخلوات والمجاهدات كما بينا سابقاً، حتى صار مستحقاً للإجازة الكاملة، وقد سمعت منه قصة إجازته من أخيه الشيخ سيد محمد قدس سره.

يقول الشيخ عبيد الله قدس سره: بعد خروجي من إحدى الخلوات، أرسل بطلبي أخي الشيخ سيد محمد فذهبت إليه، وكان جالساً في غرفته الخاصة والتي كانت لوالدي فيما سبق، فجلست بين يديه، فقام إلى مكتبته وأحضر ورقة بيده، ثم أعطاني تلك الورقة، وقال لي: يا أخي يا شيخ عبيد الله هذه الأمانة التي أودعها لك والدنا، وأمرني أن أؤديها إليك، ففتحتها فإذا هي إجازة بالطريقة القادرية، ثم بايعني على تلك الإجازة، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر جمادى الآخرة لسنة: (1380هـ)، الموافق للثلاثين من شهر تشرين الثاني لعام: (1960م).

تصدره للمشيخة والإرشاد: ذكرنا فيما سبق أن الشيخ سيد محمد القادري تصدر للمشيخة بعد وفاة أبيه، وكان ذلك في عام: (1954م)، وبعد سنتين من توليه مشيخة الطريقة القادرية ابتلاه الله عز وجل بالمرض، فأصيب بمرض يسمى: (أكياس الكبد)، وهذا المرض صار مرضاً مزمناً فيما بعد، لازمه حتى الوفاة، وبدأ المرض يشتد عليه شيئاً فشيئاً، وفي عام (1960م) أجاز أخاه الشيخ عبيد الله القادري بالطريقة كما أوصاه والده، وصار يؤهله لمشيخة الطريقة وإدارة شؤون التكية، فكان الشيخ عبيد الله القادري يقضي وقته في الخلوات، وكلما خرج من الخلوة تفرغ لشؤون التكية، وفي عام (1968م)، اشتد المرض على أخيه الشيخ سيد محمد، وأجرى عدة عمليات جراحية في ذلك الوقت، ولكن هذا المرض صار يحول بينه وبين متابعة شؤون الطريقة والتكية، وكان عمر الشيخ في ذلك الوقت: ستاً وعشرين سنة، فطلب منه أخوه مساعدته وإعانته في إدارة شؤون التكية والطريقة، فاستجاب له، رغبة بتخفيف الأعباء عنه، وبدأ يدير شؤون الطريقة والتكية بدلاً من الشيخ سيد محمد القادري قدس سره، فصار الشيخ في هذا الوقت يخفف من الخلوات، ويقضي غالب الوقت في التكية، يدير شؤونها ويتابع أمور الطريقة، ولكن تحت رعاية الشيخ سيد محمد قدس سره، وإذا دخل خلوة ففي التكية، وبقي الوضع على هذا الحال مدة من الزمن، والمرض يشتد على الشيخ محمد يوماً يوم حتى أقعده بالفراش، وفي عام (1980م)، طلب الشيخ سيد محمد من أخيه الشيخ عبيد الله التفرغ كلياً لمشيخة الطريقة القادرية ولشؤون التكية ومتابعة المريدين، لرغبته بالاعتزال عن هذا الأمر كله؛ بسبب مرضه أولاً، ولأنه رأى في أخيه الشيخ عبيد الله الأهلية الكاملة لهذا الأمر، فقد صار من أهل الإرشاد، وكان عمره يومها: (38 سنة)، فاستجاب الشيخ عبيد الله ولبى طلب أخيه، وتصدر لمشيخة الطريقة وإدارة شؤون التكية ومتابعة المريدين، وصار هو شيخ الطريقة القادرية العلية.

وهنا تبدأ مرحلة جديدة من حياة الشيخ قدس سره العزيز، فقد جلس على سجادة الطريقة، وانتهى عهد الخلوات، وبدأ عهد الدعوة والإرشاد، فبدأ بنشر الطريقة القادرية بين الناس، فقد كان انتشارها قليلاً جداً في عهد والده وأخيه قدس الله سرهما، وذلك لشدتهما في منهج التربية والسلوك، فقد مات والده الشيخ أحمد القادري ولم يعط الطريقة إلا لعدد قليل جداً، بل إنهم لا يتجاوزون خمسة عشر مريداً، وكذلك الشيخ سيد محمد كان على نهج أبيه.

وبعد أن تصدر الشيخ عبيد الله للمشيخة بدأ عدد المريدين يزداد يوماً بعد يوم، وزاد الإقبال على التكية، فصار يقيم فيها مجالس الذكر مرتين في الأسبوع، مجلساً ليلة الاثنين، ومجلساً ليلة الجمعة، ولم تنقطع هذه المجالس إلى يومنا هذا، وسمح للمريدين بدخول الخلوات والرياضات في التكية، فأقبل الكثير منهم على الخلوات والمجاهدات.

وكان الشيخ يلازم التكية أكثر من ملازمته لبيته، ولا تتوقف مجالس الذكر والقراءة والختمات طيلة أيام الأسبوع، فظهرت على السالكين أحوال عظيمة، وتغيرت أخلاقهم وسلوكياتهم بين الناس، فكان لهذا الأثر العظيم في انتشار الطريقة والإقبال عليها، أضف إلى ذلك ما أظهره الله عز وجل للشيخ عبيد الله قدس سره من كرامات وخوارق ومكاشفات، أثرت بالعقول، وأنارت القلوب، حتى ذاع صيته بين الناس فصار يقصد من كل مكان للطريق والبركة.

أضف إلى ذلك أن التكية صارت مقصداً للفقراء والمحتاجين والمساكين، فكان إطعام الطعام فيها لا ينقطع، وكانت مأوى للناس من كل مكان، وكل ذلك بفضل الله عز وجل، وجهود الشيخ، وسيأتي الحديث مفصلاً عن التكية القادرية بعامودا.

وصار الشيخ يسافر إلى بعض المدن السورية بين الحين والآخر، داعياً إلى الله تعالى، ناشراً الطريقة القادرية بين الناس، كما أنه فتح العديد من الزوايا في عدة مدن، وأجاز بعض المريدين وخلفهم في الطريقة القادرية، فكان لذلك الأثر الكبير، ومن الجدير بالذكر أن شخصية الشيخ قدس سره، وذكاءه وبديهته، وجمال صورته ومنطقه، وعذب لسانه وحسن خلقه ومعاملته، كل ذلك لعب دوراً كبيراً في انتشار الطريقة القادرية بين الناس، فجزاه الله تعالى كل خير.

وكان منهجه كله مبنياً على المجاهدة، متبعاً بذلك والده والشيخ نور الدين البريفكاني والإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني، وبدأ بنشر الطريق في أنحاء سورية كلها وظهر على كل أقرانه وذاع صيته بين الناس فصار كالعلم في الطريقة القادرية، وسخر نفسه وماله وأولاده وأهله كلهم في خدمة الطريقة وتربية المريدين، حيث كان يعلمهم الأدب مع الله سبحانه وتعالى ثم مع الناس، ويعلمهم مكارم الأخلاق، وأن العبد مهما تقرب إلى الله بعبادته وطاعته إذا لم يكن عنده أخلاق فلن يصل إلى مقام العبودية الصحيح.

ولقد انتشرت الطريقة على يده انتشاراً كبيراً، وأكاد أجزم وبدون مجاملة أنه لم يظهر شيخ من شيوخ الطريقة القادرية النورية من بعد الشيخ نور الدين من نشرت الطريقة على يده مثلما انتشرت على يد الشيخ عبيد الله القادري، فكان له من التلاميذ والمريدين الكثير في كل المدن والمحافظات السورية، وكذلك في كافة البلاد العربية والإسلامية، وطريقته تنتشر في كل هذه البلدان ولله الحمد.

 وأما أخلاقه فقد كان يردد دائماً: (التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك بالتصوف)، فكانت أخلاقه محمدية، ذو حلم عظيم، وصبر جميل، يزينه التواضع للصغير والكبير، للغني والفقير، للرعية والأمير، شديد تحمل الأذى، كريماً صاحب جود كبير، تكيته مفتوحة ليلاً ونهاراً، تستقبل القاصيَ والداني، من يعرفه ومن لا يعرفه، شديد الرحمة، وأخلاقه هذه مع أهله ومع الناس جميعاً، يحب العفو والسماحة ويخدم الأمة ويساعد في قضاء حوائج الناس، ولا يتأخر عن مساعدة أحد، ووالله ما رأيت أحداً بمثل هذه الأخلاق أسأل الله أنْ يكرمنا بها، ومهما طال مجلسه لا تشعر بالملل أبداً، قال عليه الصلاة والسلام:  « إن أحبكم إلي، وأقربكم مني يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً» رواه الترمذي، وقال عليه الصلاة والسلام: « إن خياركم أحاسنكم أخلاقاً» رواه الترمذي.

وكان يقول قدس سره: «ما رأيت أحداً من فساق المسلمين إلا وحسبته خيراً مني؛ فإيمانه ظاهر وفسقه باطن، والله غفار ستار».

وكانت خدمة المريدين عنده مقدمة على خدمة بيته وأهله، وهو بسيط متواضع مع الصغير والكبير، ومع هذا كله كانت له هيبة تجدها وتشعر بها في مجلسه، ولو لم تر إلا أخلاقه لكفتك لاتخاذه مرشداً يعلمك حسن الخلق، ووالله لا أريد المبالغة فلست ممن يحبون أن يمدحوا أشياخهم، لكن هذا ما يصفه به كل من عرفه، وكان إذا جلس تجده يشغل مجلسه بالذكر وإلا فيشغل المجلس بكلامه بالتصوف والإرشاد حتى لا يتخلل المجلس لغواً ولا لهواً، وكان يتحلى بالسماحة والعفو، فكم من الناس كان يغتابه ويسبه ويؤذيه وكان يقول: يا بني ادع لهم بالصلاح ولا تدع عليهم وسامحهم وسلم الأمر إلى الله.

وكان يتميز بالصبر وتحمل الأذى والصبر على الشدائد ويخالط سائر طبقات الناس الفقير والغني والكبير والصغير الكل يجلس عنده في التكية سواء وكان ملجأ للناس لقضاء حوائجهم ولا يرد أحداً عن بابه، إن استطاع ساعده وإن لم يستطع أكرمه وأنعم عليه بنعم الله ولم يكسر قلبه وأخذ بيده، وكان حسن المعاشرة والمعاملة وكان متميزاً بتواضعه لله ولعباده وكان يطلب الدعاء من كل من يراه ويكلمه ويجلس معه. وكان كثيراً ما يعد الطعام لضيوفه وتلاميذه بيده، وقد رأيت هذا بنفسي وحدث أمامي، وكان لا يحب أن يخرج أحد من عنده إلا وهو مسرور وراضٍ، وكان يقول: يا بني تواضع لله يرفعك الله، ولن يرفعك الله حتى ترى كل الناس خيراً منك وأنك أدناهم. وقد طلب منه الناس مرة أن يطرد أحد الناس من مجلسه بحجة أنه في حضرة الشيخ يتظاهر بالصلاح وإذا خرج من عند الشيخ كانت أعماله فسقية فكان جواب الشيخ: والله ما رأيت أحداً من فساق المسلمين إلا ورأيته أحسن مني.

وكان  لا يرد دعوة لأحد غنياً كان أو فقيراً فهذه جملة من أخلاق الشيخ رضي الله عنه، ولو ذكرنا أخلاقه كاملة لما استطعنا الإحاطة بها، لأن الأولياء الكمل لا يستطيع أي إنسان أن يحيط بأحوالهم وأخلاقهم، وقد ميز الله الشيخ رضي الله عنه بالكرم فكان كريما سخياً، فقد أعد مكاناً لاستقبال ضيوفه، وأعد لهم كل ما يلزمهم، وكان يقدم لهم وجبات الطعام مهما كان عددهم ولا يبالي بما ينفق على الضيوف، وما رأيت يوماً التكية خاوية من الضيوف، وتمر أيام يزيد فيها عدد الضيوف عن خمسة آلاف، ويقدم لهم كل ما يحتاجونه، وذلك في كل عام في مولد الشيخ عبد القادر، وأحياناً يصل إلى خمسة عشر ألفاً، وفي رمضان كان يعتكف عنده في كل عام ما يقارب مائة رجل وأكثر، فكرمه ليس له حدود فقد أعطاه الله فأنفق مما أعطاه، فنسأل الله أن يرحمه وينفعنا ببركته.

ومن عجائب ما رأيت من تواضعه أنه خرج ذات يوم من التكية بعد انتهاء مجلس الذكر قاصداً منزله، وكانت ليلة ماطرة، فأسرع أحد المريدين وتناول حذاء الشيخ فقبله ثم وضعه للشيخ ليلبسه، فنظر الشيخ له وقال:

لم فعلت هذا؟ فقال: الله يجعلني ذرة بنعلكم يا سيدنا، فتمعر وجه الشيخ وبدا الغضب عليه! فقال: لا أريدك ذرة بنعلي بل أريدك رجلاً ينتفع بك المسلمون، واعلم أن هذا لا يرضيني ولا يرضي الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا بالشيخ يخرج حافياً وهو يلبس جوارب بيضاء والأرض يملؤها الماء والطين ما بين التكية ومنزله، فلحقنا به نريد منه لبس الحذاء، فقال كلمة عظيمة: والله لا ألبس حذاء يقبله الناس فمن أنا ليُقَبَّلَ حذائي، وخرج لبيته حافياً، فلله دره من رجل نفعنا الله تعالى ببركته.

قلت: ومن أكبر نعم الله علي أن أكرمني بصحبته والتلقي عنه ظاهراً وباطناً، فهو صاحب الفضل علي بعد الله سبحانه وتعالى، ولقد سلكت الطريقة على يده في عام (1991م)، فالتزمت بمنهجه وتعاليمه، ودخلت على يده الخلوات والمجاهدات حتى شرفني بالإجازة في الطريقة القادرية من يده الشريفة في عام: (1995م)، فالحمد لله الذي جعلني من تلاميذه فجزاه الله عني كل خير.

وفاته قدس سره: بعد أن تجاوز الشيخ الثمانين سنة اشتد عليه المرض، وساءت حالته الصحية في أواخر عام (2023م) كثيراً، وكان يقيم وقتها في تركيا، ونقل إلى المستشفى عدة مرات، وبعد خروجه من المستشفى جمع متاعه ورجع إلى سورية للإقامة بين أهله وأولاده، ولما وصل إلى دمشق جلس في بيت ابنته زوجة السيد أحمد فاتح القادري ابن الشيخ سيد محمد في المزة، ثم أرسل إلى ولده الشيخ أحمد فحضر إلى دمشق، وكان يقول له باستمرار، يا أحمد خذني إلى عامودا، ولكن الشيخ أحمد لبعض الأشغال كان يريد التأخر في دمشق، فكان يناديه ويقول: يا أحمد التأخير سبب الآفات، لا تتأخر يا أحمد، فكان الشيخ يلح كثيراً بالسفر لعامودا، وليست هذه عادته، فجهزه الشيخ أحمد ومن معه وسافروا به إلى بلدته وموطنه ومسقط رأسه عامودا، ومكث فيها أياماً طريح الفراش.

وكانت أيامه الأخيرة مليئة بالعجَب كما روى لنا أبناؤه وأحفاده فمن ذلك: أنه كان ينادي على بعض الأسماء والأشخاص وهو في فراشه بين النوم واليقظة، فكان ينادي والده وأخاه وزوجته، ويطلب من الحاضرين أن يسكبوا لهم الشاي أو يضيفوهم، ولكن بالحقيقة لا يوجد أحد في غرفته، هو فقط من يراهم، فكانت هذه إشارات واضحة على دنو أجله قدس سره.

وفي يوم الأحد (31/12/2023م-18/6/1445هـ) طلب من أحفاده أن يخرجوه في السيارة جولة في عامودا، فأخرجه حفيده السيد عبد القادر بن الشيخ أحمد في جولة في المدينة، ثم طلب زيارة قبر والده وأخيه، فجلس برهة من الوقت عندهم، ثم رجع للتكية والمسجد فطلب منهم أن يطوفوا به في أنحائها، وكان حاله حال المودع لهذه البقاع، ثم دخل وحضر مجلس الذكر بعد العشاء، ثم طلب الرجوع إلى فراشه، فأرجعوه ونام ليلته بسلام وأمان.

وفي صبيحة اليوم التالي: جاء ولده الشيخ أحمد ليتفقده، فوجده ساكناً نائماً فتركه على حاله، وقبيل صلاة الظهر دخلت عليه زوجة ابنه الشيخ أحمد تتفقده، فوجدته بحالة غريبة، فنادت زوجها وقالت له: الشيخ ليس على ما يرام، فأسرع الشيخ أحمد إليه وحاول إيقاظه، ولكن القدر سبقه، فإذا به قد فاضت روحه إلى باريها، فأحضروا الطبيب فعاينه وفحصه فأكد وفاته.

وكانت وفاته قدس سره ظهيرة يوم الإثنين أول أيام العام الجديد: (1/1/2024م-19/6/1445هـ)، في بيت ولده الشيخ أحمد في عامودا، فجهز وغسل وكفن في مكان وفاته من قبل أبنائه، وكانت وصية الشيخ قدس سره أن يدفن في التكية القادرية المباركة، تحت مسجدها، فحفر القبر وجهز حيث أوصى الشيخ، وتأجل دفنه لليوم التالي بسبب الزحام من جهة، وانتظاراً لوصول أبنائه وأحفاده ومريديه والكثير من العلماء من بقية المدن والمحافظات والدول.

وشيعت جنازته في اليوم التالي، حيث نقل جثمانه الشريف في ظهيرة يوم الثلاثاء إلى المسجد الكبير في عامودا ليصلى عليه، واجتمع على جنازته خلق كثير لا يحصون عدداً، وازدحمت شوارع المدينة من كثرة المشيعين للجنازة، فصلى عليه ولده الشيخ عبد الواحد، كما صلي عليه صلاة الغائب في عدة بلاد، ثم شيع الجثمان إلى التكية القادرية المباركة فدفن فيها قدس سره العزيز .

وأما ذرية الشيخ: فقد ذكرنا فيما سبق أن الشيخ عبيد الله قدس سره قد رزق من زوجته السيدة سنيحة بعشرة أولاد، سبعة من الذكور، وثلاثاً من البنات، أما الأبناء فهم على الترتيب: السيد الشيخ هشام، والسيد الشيخ جنيد، والسيد الشيخ معروف، والسيد الشيخ عبد الواحد، والسيد الشيخ أحمد، والسيد الشيخ محمد، والسيد الشيخ حسين، وقد صحبتهم جميعاً، حفظهم الله تعالى. وأما البنات فهن:  السيدة راجحة: وهي أكبر البنات، والسيدة رابعة وهي ثاني بنات الشيخ، والسيدة غزالة: وهي أصغر بنات الشيخ.

وللشيخ قدس سره أربع مؤلفات وهي:

أولاً: كتاب القناديل النورانية في أوراد وأذكار السادة القادرية: وهو كتاب جمع فيه الشيخ أهم الأوراد والأذكار والأدعية والأحزاب التي تلزم المريد في سيره وسلوكه على منهج الطريقة القادرية العلية، وقد طبع عدة مرات.

ثانياً: كتاب الفيض النوراني في آداب التصوف والذكر الرحماني: وهو كتاب يتألف من ثلاثة مجلدات، جمع فيه الشيخ الكثير مما تلقاه بالإجازة من مشايخه من أوراد وأذكار وأحزاب وفوائد، وقد طبع الكتاب وانتشر في عدة بلاد.

ثالثاً: راتب الشيخ عبيد الله القادري: وهو كتيب صغير كان يجمع الشيخ فيه أهم الأوراد والأحزاب التي يحافظ عليها في يومه وليلته، وكان يحمله بجيبه أين ما توجه، فلا يفارقه أبداً، وقد زودني الشيخ بنسخة منه.

رابعاً: الذخائر والمجربات القادرية: وهو كتاب بخط الشيخ لم يطبع، جمع فيه الشيخ أهم الفوائد والمجربات والذخائر التي تلقاها عن والده وعن أخيه وعن مشايخه، وهي فوائد روحانية وعلاجية تنفع للكثير من الحوائج.

المصدر: روض الجنان في ترجمة قطب البريفكان
للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري الحسيني