يتبين لنا من خلال ما مضى أن حقيقة التصوف هي: العمل بالشريعة على وجه الإخلاص، مع الكمال والتمام في كل الأعمال الظاهرة والباطنة، القلبية والنفسية والجسدية، ومراقبة الله في الأقوال والأفعال والأحوال، ولو نظرنا في سير وتراجم رجال وأئمة علم التصوف الأوائل الذين أسسوه وبنوا قواعده، لوجدناهم علماء عاملين، دعاة إلى الله مخلصين، ساروا إلى الله تعالى متمسكين بالكتاب الكريم والسنة المطهرة، فلذلك ظهرت أسرارهم وأشرقت أنوارهم وبقيت آثارهم، وانتفع بهم الناس إلى يومنا هذا.
فالتصوف حقيقة هو: أن تتعلم العلم الشرعي الذي هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشريف: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»([1])، ثم تعمل بهذا العلم الذي تعلمته، ثم تسعى لاكتساب الصدق والإخلاص ويكون ذلك بالاستعانة بالله، والعكوف على الذكر والعبادة لتصفية الروح وتزكية النفس وشفاء القلب السقيم.
ويجب أن نعلم أنه لا تصوف بدون علم، ولا نفع للعلم بلا عمل، ولا نفع للعمل بلا إخلاص، ومن قال بغير هذا فهو ليس من التصوف في شيء، ولكي يتضح معنى التصوف وتتجلى حقيقته، ويعرف عظم قدره وجلالة شأنه، لابد من الاستئناس بأقوال العلماء والعارفين؛ التي تبين لنا حقيقته جلية، فمن أقوالهم تتضح لنا الحقائق، ونعرف الدقائق، ونتحقق بالرقائق، وسنذكر أقوال الأئمة والعلماء وشهاداتهم للتصوف فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
الإمام أبو حنيفة النعمان كان من أهل التصوف والطريقة: يقول ابن عابدين في حاشيته: «وقد قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته مع صلابته في مذهبه وتقدمه في هذه الطريقة: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: أنا أخذت هذه الطريقة من أبي القاسم النصر باذي. وقال أبو القاسم: أنا أخذتها من الشبلي، وهو أخذها من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من أبي حنيفة» ([2]).
يقول الإمام مالك رضي الله عنه: «من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق»([3]).
ويقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: «حبب إِليَّ من دنياكم ثلاث: ترك التكلف وعشرة الخلق بالتلطف والاقتداء بطريق أهل التصوف»([4])، ويقول أيضاً: «صحبت الصوفية فاستفدت منهم ثلاث كلمات: قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، وقولهم: العدم عصمة» ([5]).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لولده: بعد أن صحب أبا حمزة البغدادي الصوفية: «يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة» ([6]).
ويقول أيضاً: «لا أعلم أقواماً أفضل منهم، قيل إنهم يستحيون ويتواجدون، قال دعوهم يفرحوا مع الله ساعة»([7]).
ويقول الإمام الغزالي: «ولقد علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق» ([8]).
ويقول الإمام النووي: «أصول طريق التصوف خمسة: تقوى الله في السر والعلانية، اتباع السنة في الأقوال والأفعال، الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار، الرضا عن الله تعالى في القليل والكثير، الرجوع إلى الله في السراء والضراء» ([9]).
ويقول الإمام العز بن عبد السلام: «قعد القوم من الصوفية على قواعد الشريعة التي لا تتهدم دنيا وأخرى وقعد غيرهم على الرسوم، ومما يدجل على ذلك ما يقع على يد القوم من الكرامات وخوارق العادات، فإنه فرع عن قربات الحق لهم، ورضاه عنهم، ولو كان العلم من غير عمل يرضي الحق تعالى كل الرضى لأجرى الكرامات على أيدي أصحابهم، ولو يعملوا بعلمهم، هيهات هيهات» ([10]).
ويقول الإمام تاج الدين السبكي تحت عنوان الصوفية: «حياهم الله وبياهم وجمعنا في الجنة نحن وإياهم وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعباً ناشئاً عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المتلبسين بها، بحيث قال الشيخ أبو محمد الجويني: لا يصح الوقف عليهم لأنه لا حد لهم. والصحيح صحته، وأنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة. ثم تحدث عن تعاريف التصوف إلى أن قال: والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين تُرْتَجَى الرحمة بذكرهم ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم» ([11]).
ويقول الإمام الرازي: «اعلم أن أكثر من حصر فرق الأمة لم يذكر الصوفية، وذلك خطأ لأن حاصل قول الصوفية أن الطريق إلى معرفة الله تعالى، هو التصفية والتجرد من العلائق البدنية، وهذا طريق حسن، وقال أيضاً: والمتصوفة قوم يشتغلون بالفكر وتجرد النفس عن العلائق الجسمانية، ويجتهدون ألا يخلو سرهم وبالهم عن ذكر الله تعالى في سائر تصرفاتهم وأعمالهم، منطبعون على كمال الأدب مع الله عز وجل، وهؤلاء هم خير فرق الآدميين» ([12]).
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: «إن كثيراً من الجُهَّال يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الاتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون وحاشاهم (الصوفية) من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها» ([13]).
ويقول الإمام تاج الدين السبكي: «حياهم الله وبَيَّاهُم وجمعنا في الجنة نحن وإياهم وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعباً ناشئاً عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المتلبسين بها، بحيث قال الشيخ أبو محمد الجويني: لا يصح الوقف عليهم لأنه لا حد لهم، والصحيح صحته، وأنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة، ثم تحدث عن تعاريف التصوف إلى أن قال: والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجى الرحمة بذكرهم ويستنزل الغيث بدعائهم، فرضي الله عنهم وعنا بهم» ([14]).
ويقول الإمام السيوطي: «إن التصوف في نفسه علم شريف وإن مداره على اتباع السنة وترك البدع وعلمت أيضاً أنه قد كثر الدخيل فيه من قوم تشبهوا بأهله وليسوا منهم فأدخلوا فيه ما ليس منه فأدى ذلك إلى إساءة الظن بالجميع» ([15]).
ويقول ابن خلدون في مقدمته: «وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الحادثة في الملة، وأصله أنَّ طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية» ([16]).
وفي هذا القدر مما نقلناه من أقوال وشهادات العلماء للصوفية والتصوف، فقد بينت ووضحت بشكل واضح حقيقة التصوف وعلو شأنه ومقامه، كما بينت بشكل جلي واضح لكل ذي عقل أن التصوف هو علم شريف ومستمد من الشرع، وقائم على الشرع، ولا يخرج عن الشرع. فكيف يأتي بعد ذلك من يقول: إن التصوف علم مبتدع، وليس له أصل في الشريعة، وهو زندقة ورجاله زنادقة! فهذا الكلام لا يخرج إلا من جاهل أحمق لا يعي ما يقول، أو ملأ الحقد قلبه. وحتى لا يأتي أحد ويسرد لنا أقوال بعض المتصوفة التي تخالف الشرع ويحتج علينا بها، فسنذكر فيما يأتي أقوال رجال التصوف المعتمدين الكبار رحمهم الله تعالى، لنبين حقيقة التصوف بشكل واضح وجلي عند رجاله وأهله، وإليك أقوال العارفين أئمة التصوف بل ومؤسسي علم التصوف.
المصدر: الرسالة الحذيفية في تعريف التصوف والصوفية
موقع الطريقة القادرية العلية 2025