ومن أبرز خلفاء وشيوخ الطريقة القادرية النورية العلية، الذين لاح نورهم في مشارق الأرض ومغاربها، سيدنا وشيخنا ومرشدنا وحلقة وصل سلسلتنا القادرية المباركة الولي الكبير العارف بالله السيد الشريف الشيخ أحمد ابن الشيخ محمد القادري الباقري الداري الحسيني الشافعي، شيخ الطريقة القادرية العلية، ونقيب السادة الأشراف في جزيرة الفرات، ويلقب بالشيخ الأخضر، وباللغة الكردية الكسك، وذلك لملازمته لبس الأخضر من الثياب، ويكنى بأبي عبد القهار، وقد سبق ذكر نسب والده في الفصل السابق.
ولد الشيخ قدس سره في مدينة دارا الأثرية وهي من أعمال ولاية ماردين العربية، في سنة (1276هـ- 1860م)، في ظل أسرة كريمة النسب عرفت بالكرم والجود والشجاعة، وخدمة الناس وإطعام الطعام للفقراء والمساكين وعابري السبيل.
نشأ الشيخ وترعرع في ظل والده الذي حرص على تربية ولده تربية صالحة، فوضعه عند العلماء ليتعلم منهم العلوم الشرعية والآداب والأخلاق، وتعلم الشيخ أحمد خلال فترة من الزمن أهم العلوم الشرعية كالفقه والتفسير والتوحيد وغير ذلك من العلوم.
وكان حريصاً منذ صغره على صحبة أهل الصلاح والسلوك والعمل على خدمتهم والأخذ عنهم، وكان شديد الإعجاب بهؤلاء الرجال لما رآه عندهم من صدقٍ وإخلاص وتواضع وافتقار لله تعالى.
فأحب التصوف وسلك مسلكه منذ الصغر، فسلك الطريقة القادرية العلية من يد والده وتلقن عنه الأوراد والأذكار، وتربى بين يديه على آداب الطريقة، وصحبه عدة مرات إلى البريفكان، ولازمه حتى انتقاله، وكان قد أجازه بالطريقة القادرية وبأورادها وأذكارها.
وقد أخبرني سيدي الشيخ عبيد الله القادري أن الشيخ نور محمد البريفكاني قدس سره، أراد أن يجيز الشيخ أحمد القادري، وكان يومئذ في زيارة إلى البريفكان بصحبة والده، لما رآه فيه من أهلية وصلاح، ولكن الشيخ أحمد اعتذر من الشيخ نور محمد أدباً مع والده، فلم يرغب أن يساويه في الإجازة من شيخه، فأعجب الشيخ نور محمد بأدب الشيخ أحمد مع والده وشيخه.
وبعد وفاة والده، صحب ابن عمته شيخ دارا الشيخ محمد الكالي الحسيني القادري شيخ الطريقة القادرية، وقد سبقت ترجمته، فأخذ منه السلوك وعلم التصوف والطريقة القادرية، وقد عمل الشيخ محمد الكالي القادري على إدخاله الخلوات والمجاهدات والرياضات، حتى نال منها النصيب الأكبر، وبلغ مبلغ الصالحين والعارفين، فأجازه بالطريقة القادرية ليكون خليفته من بعده.
كما صحب الشيخ عبد القهار البريفكاني القادري قدس سره، وزاره عدة مرات في البريفكان وأخذ عنه الخلافة القادرية، ودخل الخلوات هناك، وكما حدثني شيخنا أن والده دخل خلوة مدتها سنتان في البريفكان، وبعد ذلك نال الإجازة والخلافة القادرية من الشيخ عبد القهار البريفكاني قدس سره.
وبدأ الشيخ بعد ذلك بالدعوة والإرشاد ونشر الطريقة القادرية في مدينة دارا وماردين وديار بكر وفي الكثير من المناطق التركية، وذاع صيته بين الناس فأقبل عليه المريدون من كل مكان، حتى شاءت حكمة الله عز وجل أن ينتقل الشيخ أحمد وأهل بيته وأقاربه من تركيا إلى سورية ويستقر في مدينة عامودا، كما بينا في ترجمة الشيخ محمد الكالي القادري، فبدأ الشيخ أحمد حياة جديدة هو وأقرباؤه فعملوا على بناء البيوت ليعيشوا فيها هم وأولادهم، وبدأ الرجال يعملون بالزراعة وتربية الأغنام وغير ذلك معتمدين على أنفسهم في تدبير معاشهم وحاجياتهم إلى أن قام العدو الفرنسي سنة (1936م)، بقصف المدن السورية بالمدافع والطيران، وكان من هذه المدن التي قصفت مدينة عامودا، وبسبب هذا القصف الذي أصيبت به عامودا فقد شارك الشيخ مع أبناء عامودا في الجهاد ضد العدو الفرنسي، ثم بعد ذلك انتقل هو وعائلته إلى دمشق، وسكن منطقة الكلاسة القريبة من الجامع الأموي حيث اشترى منزلاً فيها، وكذلك شارك أهلها بالجهاد ضد العدو الفرنسي.
وقد حدثني نجله الشيخ سيد محمد القادري قدس سره أن والده كان يساعد المجاهدين بإيصال المؤن لإخوانهم في فلسطين، من غذاء وسلاح وغير ذلك، ليحصل على ثواب المجاهدين، وعاش هناك فترة من الزمن، حيث التقى فيها بأكابر العلماء والمشايخ، وبقي فيها إلى آواخر الأربعينات حيث عاد إلى عامودا وعمل على بناء بيته وتكيته القادرية، وبدأ حياة مستقرة مع عائلته.
وتصدر للدعوة والإرشاد ونشر الطريقة وأقام مجالس الذكر فيها، وتم تعيينه بعد ذلك من قبل الحكومة السورية نقيباً للأشراف لمنطقة الجزيرة السورية (الفراتية)، وذلك في بداية الخمسينات أيام الرئيس هاشم الأتاسي وذلك بمرسوم جمهوري، ولكن الشيخ اشترط أن لا يأخذ أجراً على هذا العمل، وبقي نقيباً للأشراف حتى وفاته، وعين بدلاً عنه نجله الشيخ سيد محمد.
وقد عرف عن الشيخ أنه من أهل الخلوات والمجاهدات وكان متمسكاً بها، وقد سمعت من ولديه الشيخ سيد محمد والشيخ عبيد الله القادري قدس سرهما، أنه دخل خلوة في بلدة دارا في سجن قديم تحت الأرض عمقه ثمانون درجة، وبقي سبع سنوات متواصلة يتعبد الله تعالى فيه لا يبرحه أبداً.
ولما رحل لعامودا كان الشيخ يقيم في قرية حطين (الشاغر بازار) وكان له مكان يتعبد فيه في هذه القرية، وهو مازال إلى الآن موجود وقد رأيته وهو مغارة في تلة في تلك القرية يراها كل عابر من تلك القرية، كان ينقطع إلى الله تعالى ويقوم بخلواته ومجاهداته، فكان ينقطع فيها أربعين يوماً وسبعيناً يوم وأربعة أشهر، وسنة وشهرين، وهكذا كان حاله، وكان لا ينقطع عن زيارة بغداد والبريفكان، بل كان يدخل بعض الخلوات هناك، لينهل من بركات مشايخه قدست أسرارهم، وكانت آخر زيارة له في عام: (1936م)، وهي السنة التي أجاز بها ولده الشيخ سيد محمد وكان برفقته حيث سلمه الإجازة في بريفكان.
أما شيوخه قدس سره: فقد تلقى الشيخ أحمد قدس سره عن عدة علماء وأولياء من أبرزهم: والده الشيخ محمد الباقري القادري، وعمه ووالد زوجته الشيخ محمد الكالي الداري القادري، والشيخ عبد القهار البريفكاني القادري، الذين أجازوه بالطريقة القادرية العلية وأورادها كما بينا سابقاً، ومن مشايخه الشيخ أحمد يعقوب الكيلاني الحموي الذي أجازه بالطريقة القادرية في سنة (1348هـ)، والشيخ أحمد الشريف السنوسي الذي تدبج معه الإجازة وكان لقاؤهم في تركيا، والشيخ أحمد الشمس الحاجي الشنقيطي خليفة الشيخ ماء العينين الذي أجازه بالأوراد والأذكار والطريقة الفاضلية القادرية الشاذلية في سنة (1342هـ).
أما وفاته قدس سره: فقد كانت في بلدة عامودا وذلك في يوم الخميس من أخر شهر رجب لسنة (1373هـ)، الموافق لشهر نيسان لعام (1954م)، بعد مرض ألم به بعد انتهائه من بناء التكية القادرية بعامودا، حيث رقد في فراشه ستة أيام، وفي اليوم السابع فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل، ودفن قدس سره في مقبرة بلدة عامودا، وقبره فيها ظاهر يزار حتى هذا اليوم، تكلله الأسرار والأنوار والمهابة، ولطالما زرته وجلست عنده أوقاتاً طويلة مباركة.
أما ذريته الشريفة: فقد أعقب الشيخ قدس سره ثلاثة أبناء وهم: الشيخ سيد محمد وهو الكبير، والشيخ عبيد الله وهو الصغير وستأتي ترجمتهما، وذريتهما طيبة مباركة تنتشر في سورية وتركية وغيرها وستأتي تراجم بعض أحفاده، وأما الشيخ عبد القهار توفى صغيراً ولا عقب له.
ومن خلفائه قدس سره: نجلاه الشيخ سيد محمد والشيخ عبيد الله، ومن خلفائه الشيخ محمود الشقفة الحموي، والشيخ ياسين أبو كمال في دمشق منطقة ساروجة، والشيخ عبد الغني الأنصاري في ماردين.
وكان الشيخ صاحب كرامات ظاهرة باهرة، وكان مشهوراً بالجود والكرم والسخاء، وكان صاحب خلق حسن وصاحب هيبة، ومكانة بين الناس ولا يخاف في الله لومة لائم، ويقصده الكثير من الناس من علماء وأولياء، وقد ترجمت له ترجمة واسعة في كتابنا الدرر الجلية في أصول الطريقة القادرية، والفقير يتصل به من طريق نجليه، وأحمد الله على ذلك، فلقد انتفعت ببركته ورأيت من كراماته الكثير، ونوره وبركته تصحبني منذ أكثر من ربع قرن ولله الحمد، فجزاه الله عني كل خير، ونفعني الله ببركته وأمدني بمدده، آمين.
المصدر: روض الجنان في ترجمة قطب البريفكان للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري الحسيني
موقع الطريقة القادرية العلية 2025