جديد الموقع
الشيخ أبو بكر القادري => سير مشايخ الطريقة ۞ أهم مشاكل التصوف المعاصر => مقالات في التصوف ۞ اختلاف الأمة المضحك المبكي => مقالات الشيخ القادري ۞ آداب المريدين => مؤلفات الشيخ القادري ۞ دعاء عظيم للحمل والذرية => فوائد ومجربات ۞ الصلاة الكبرى للجيلاني => مؤلفات الشيخ القادري ۞ الحرز الجامع والسيف المانع => مؤلفات الشيخ القادري ۞ درس تجربة => دروس ومحاضرات فيديو ۞ الوفاء لأهل العطاء => التعريف بشيوخ الطريقة ۞ تبصرة المسلمين وكفاية المحبين => مؤلفات الشيخ القادري ۞
الترجمة

الشيخ عبد القادر الجيلاني

الكاتب: الشيخ القادري

تاريخ النشر: 11-06-2022 القراءة: 7812

تَرْجَمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ لِلْإِمَامِ الْجِيلَانِيِّ[1]

هو الشيخ الكامل والجهبذ الواصل، خزينة المعارف ومرجع كل قطب وعارف، ذو المقامات العالية والقدم الراسخة والتمكن التام، سلطان الأولياء والعارفين، السيد محيي الدين عبد القادر ابن السيد أبي صالح موسى جنكي دوست ابن السيد عبد الله ابن السيد يحيى الزاهد ابن السيد محمد بن السيد داود ابن السيد موسى ابن السيد عبد الله أبي المكارم ابن السيد الإمام موسى الجون ابن السيد الإمام عبد الله الكامل المحض ابن السيد الإمام الحسن المثنى ابن السيد الإمام الحسن السبط عليه السلام ابن أمير المؤمنين سيدنا ومولانا علي بن أبي طالب زوج السيدة البتول فاطمة الزهراء بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهما السلام[2]، وأمه هي السيدة الشريفة والدرة المنيفة أم الخير أمَةُ الجبار فاطمة رضي الله تعالى عنها ابنة السيد عبد الله الصومعي، ينحدر نسبها من سيد الشهداء أبي عبد الله الإمام الحسين عليه السلام.

ولادته ونشأته رضي الله عنه:

ولد رضي الله عنه في بلاد جيلان فارس، وفريق آخر يقول في جيلان العراق[3]، وكانت ولادته في التاسع من شهر ربيع الثاني من سنة أربعمائة وسبعين هجرية على أصح الأقوال وأرجحها.

نشأ الشيخ وترعرع في جيلان يتيماً، فقد كان آخر أولاد أبيه، فقد توفي أبوه بعد ولادته بقليل، فعاش في كنف جده لأمه السيد عبد الله الصومعي، وكذلك كان آخر أولاد أمه لأنها حملت به في سن متأخرة في سن اليأس، وقيل أنها حملت به وهي في الستين من عمرها، وذلك معروف عن القرشيات أنهن يحملن في هذه السن كما ذكر ذلك التاذفي في قلائد الجواهر، وكان له أخ واحد فقط اسمه عبد الله[4]. وعاش طفولته في جيلان ولكنه لم يجد ما يروي طموحه في هذه البلدة ولا ما يروي ظمأه من العلوم والمعارف، فأخذت نفسه تحدثه بالسفر إلى بغداد حاضرة الدنيا في ذلك العصر.

وقال الشيخ محمد بن قائد الأواني: «كنت عند سيدنا عبد القادر - رضي الله عنه -، فسأله سائل: علام بنيت أمرك؟ قال: على الصدق، ما كذبت قط، ولا لما كنت في المكتب، ثم قال: كنت صغيرا في بلدنا، فخرجت إلى السواد في يوم عرفة، وتبعت بقرا حراثة، فالتفتت إلى بقرة، وقالت لي: يا عبد القادر، ما لهذا خلقت، ولا بهذا أمرت. فرجعت فزعا إلى دارنا، وصعدت إلى سطح الدار، فرأيت الناس واقفين بعرفات، فجئت إلى أمي، وقلت لها: هبيني لله عز وجل، وأذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعلم، وأزور الصالحين. فسألتني عن سبب ذلك؟ فأخبرتها خبري، فبكت وقامت إلى ثمانين دينارا ركنية، ورثها أبي، فتركت لأخي أربعين دينارا، وخاطت في دلقي تحت إبطي أربعين دينارا، وأذنت لي في المسير، وعاهدتني على الصدق في كل أحوالي، وخرجت مودعة لي، وقالت: يا ولدي، اذهب فقد خرجت عنك لله عز وجل، فهذا وجه لا أراه إلى يوم القيامة. فسرت مع قافلة صغيرة نطلب بغداد، فلما تجاوزنا همذان، وكنا بأرض برتيك خرج علينا ستون فارسا، فأخذوا القافلة، ولم يتعرض لي أحد، فاجتاز بي أحدهم، وقال: يا فقير، ما معك؟ فقلت: أربعون دينارا، فقال: وأين هي؟ قلت: مخاطةٌ في دلقي تحت إبطي. فظنني أستهزئ منه، فتركني وانصرف. ومر بي آخر، فقال لي مثل ما قال الأول، وأجبته كجواب الأول. فتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدمهم، وأخبراه بما سمعاه مني، فقال: علي به، فأتي بي إليه، وإذا هم على تل يقتسمون أموال القافلة، فقال لي: ما معك؟ قلت: أربعون دينارا، فقال: وأين هي؟ قلت: مخاطةٌ في دلقي تحت إبطي. فأمر بدلقي ففتق، فوجد فيه الأربعين دينارا، فقال لي: ما حملك على هذا الاعتراف؟ قلت: إن أمي عاهدتني على الصدق، فأنا لا أخون عهدها. فبكى، وقال: أنت لم تخن عهد أمك وأنا اليوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربي. فتاب على يدي، فقال له أصحابه: أنت كنت مقدمنا في قطع الطريق، وأنت الآن مقدمنا في التوبة. فتابوا كلهم على يدي، وردوا على القافلة ما أخذوا منهم، فهم أول من تاب على يدي» [5].

سفره إلى بغداد رضي الله عنه:

دخل الشيخ رضي الله تعالى عنه بغداد في السنة التي مات فيها التميمي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان له من العمر ثماني عشرة سنة. قال ولده الشيخ عبد الرزاق: «سألت والدي عن مولده، فقال: لا أعلمه حقيقة، لكني قدمت بغداد في السنة التي مات فيها التميمي، وعمري إذ ذاك ثماني عشر سنة، والتميمي توفي سنة ثمان وثمانين وأربع مئة»[6].

وكانت بغداد في أوج عظمتها واتساعها وغناها، فابتُلِيَ الشيخ في أول حياته وامتحن امتحاناً قاسياً، وتعرض للفتن والفقر والجوع والحرمان، حتى كان يقتات من حواشي الأنهار ويمشي على الشوك حافياً، وينام في البراري والخرب، ولبس المرقع والرخيص من الثياب حتى لقب بالمجنون، ولطالما حدثته نفسه بترك بغداد والرجوع إلى أهله من غير رجعة إليها، ولكن الله ثبته وتابع طريقه الصعب الذي مُلِئَ بالأهوال والصعاب، فكان يقول لنفسه: لابد من إكمال الطريق وبلوغ الهدف الذي جئت من أجله وبعزيمته وهمته استطاع بلوغ غايته وتحقيق مقصده[7].

فسمع الحديث من أبي غالب الباقلاني، وأبي بكر أحمد بن المظفر، وأبي القاسم علي بن بيان الرزاز، وأبي محمد جعفر بن أحمد السراج، وأبي طالب عبد القادر بن محمد، وأبي سعد محمد بن عبد الكريم البغدادي، وأبي البركات هبة الله بن المبارك بن موسى البغدادي السقطي، وأبي العز محمد بن المختار الهاشمي العباسي، وأخذ الفقه عن شيخ الحنابلة القاضي أبي سعيد المبارك المخزومي البغدادي، وأخذ القرآن وعلومه وقراءاته وتفسيره الشيخ علي أبي الوفا بن عقيل الحنبلي البغدادي الظفري، والشيخ أبي الخطاب محفوظ بن أحمد بن حسن بن حسن العراقي الكلواذاني، وأخذ الأدب واللغة عن الشيخ يحيى بن علي بن محمد بن حسن بن بسطام الشيباني الخطيب التبريزي.

وأما شيوخه في التصوف والسلوك: فقد أخذ بادئ الأمر عن الشيخ حماد بن مسلم الدباس، وعن الشيخ أبي محمد جعفر بن أحمد السراج، كما أخذ عن الشيخ يوسف الهمداني، وعن الشيخ أبي الوفاء، وغيرهم من العلماء والأولياء، وأخذ الطريقة والخلافة والإجازة ولبس الخرقة الشريفة عن الشيخ أبي سعيد المبارك المخزومي، وخلفه على مدرسته في باب الأزج بعد موته. كما أخذ عن غيرهم فكان نِعْمَ الآخذ، حتى برع في الأصول والفروع وأنواع الخلاف وعلوم القرآن والبلاغة والأدب، والمذهب الحنبلي ودام على ذلك ثلاثةً وثلاثين عاماً.

تصدره للوعظ والإرشاد:

تصدر الشيخ للوعظ والتدريس في شهر شوال سنة: (521هـ)، في مدرسة شيخه أبي سعيد، ثم فوضت إليه المدرسة في سنة: (528هـ)، فأقام فيها يدرس ويعظ ويفتي الناس إلى أن ضاقت المدرسة بالناس، فظهر له صيت كبير حتى صار أحد أشهر الأولياء الذين وقع أجماع الأمة عليهم، وتتلمذ على يديه عدد كبير من الفقهاء والعلماء والمحدثين وأرباب الأحوال أمثال: شيخ العراق الزاهد الحسن بن مسلم الفارسي العراقي، وأمثال قاضي الديار المصرية عبد الملك بن عيسى الماراني الكردي الشافعي، وأبو عبد الله محمد بن أبي المعالي، والإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، والشيخ بن قدامه المقدسي.

يقول الشيخ عبد الوهاب بن سيدنا الشيخ محيي الدين رضي الله عنه: «كان والدي يتكلم في الأسبوع ثلاث مرات بالمدرسة بكرة الجمعة، وعشية الثلاثاء، وبالرباط بكرة الأحد، وكان يحضره العلماء والفقهاء والمشايخ وغيرهم، ومدة كلامه على الناس أربعون سنة، أولها سنة إحدى وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين وخمس مئة، ومدة تصدره للتدريس والفتوى بمدرسته ثلاث وثلاثون سنة، أولها سنة ثمان وعشرين وخمس مئة، وآخرها سنة إحدى وستين»[8].

ويقول موفق الدين ابن قدامة المقدسي: «دخلنا بغداد سنة إحدى وستين وخمسمائة. فإذا بالشيخ عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علماً وعملاً وحالاً واستفتاءً. وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم، والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة وما رأيت بعده مثله» [9].

ويقول محمد الحسني الموصلي: «سمعت أبي يقول: كان سيدنا الشيخ عبد القادر يتكلم في ثلاثة عشر علماً، وكان يذكر في مدرسته درسا من التفسير، ودرسا من الحديث، ودرسا من المذهب، ودرسا من الخلاف، وكان يقرأ عليه في طرفي النهار التفسير وعلوم الحديث، والمذهب والخلاف والأصول والنحو، وكان يقرئ القرآن بالقراءات بعد الظهر»[10].

ويقول الإمام ابن الجوزي البغدادي: «فتكلم على الناس ‌بلسان ‌الوعظ وظهر له صيت بالزهد وكان له سمت وصمت فضاقت مدرسته بالناس فكان يجلس عند سور بغداد مستنداً إلى الرباط ويتوب عنده في المجلس خلق كثير فعمرت المدرسة ووسعت» [11].

ويقول الشيخ عمر البزاز: «كانت الفتاوى تأتيه من بلاد العراق وغيره، وما رأيناه تبيت عنده فتوى ليطالع عليها أو يفكر فيها، بل يكتب عليها عقيب قراءتها، وكان ‌يفتي على مذهب الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله، وتعرض فتاواه على علماء العراق، فما كان تعجبهم من صوابه أشد من تعجبهم من سرعة جوابه فيها، وكان من اشتغل عليه في فن من الفنون الشرعية افتقر إليه فيه، وساد على أقرانه»[12].

ويقول الشيخ عبد الرزاق: «جاءت فتوى من العجم إلى بغداد بعد أن عرضت على علماء العراقيين: عراق العجم وعراق العرب، فلم يتضح لأحد منهم جواب شاف، وصورتها: ما يقول السادة العلماء في رجل حلف بالطلاق الثلاث أنه لا بد له أن يعبد الله عز وجل عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها، فما يفعل من العبادات؟ فأتي بها إلى والدي، فكتب عليها على الفور: يأتي مكة ويخلى له الطواف، ويطوف أسبوعا وحده، وتنحل يمينه. فما بات المستفتي ببغداد»[13].

وقال عمر الكميماثي: «لم تكن مجالس سيدنا الشيخ عبد القادر تخلو ‌ممن ‌يسلم ‌من ‌اليهود والنصارى، ولا ممن يتوب عن قطع الطريق، وقتل النفس، وغير ذلك من الفساد، ولا ممن يرجع عن معتقد سيئ، وأتاه راهب، وأسلم على يديه في المجلس، ثم قال للناس: إني رجل من أهل اليمن، وإن الإسلام وقع في نفسي، وقوي عزمي على أن لا إسلام إلا على يد خير أهل اليمن في ظني، وجلست مفكرا، فغلب علي النوم، فرأيت عيسى بن مريم صلوات الله عليه يقول لي: يا سنان، اذهب إلى بغداد، وأسلم على يد الشيخ عبد القادر، فإنه خير أهل الأرض في هذا الوقت، قال: وأتاه مرة أخرى ثلاثة عشر رجلا من النصارى، وأسلموا على يده في مجلس وعظه، وقالوا: نحن من نصارى المغرب، وأردنا الإسلام، وترددنا فيمن نقصده لنسلم على يديه، فهتف بنا هاتف نسمع كلامه ولا نرى شخصه يقول: أيها الركب ذا الفلاح، ائتوا بغداد، وأسلموا على يد الشيخ عبد القادر، فإنه يوضع في قلوبكم من الإيمان عنده ببركته ما لم يوضع فيها عند غيره من سائر الناس في هذا الوقت»[14].

ويقول الحافظ أبو العباس أحمد بن أحمد بن أحمد البندنيجي: «حضرت أنا والشيخ جمال الدين بن الجوزي -رحمه الله- مجلس سيدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه، فقرأ القارئ آية، فذكر الشيخ في تفسيرها وجها، فقلت للشيخ جمال الدين: أتعلم هذا الوجه؟ قال: نعم، فذكر الشيخ فيها أحد عشر وجها، وأنا أقول له: أتعلم هذا الوجه؟ وهو يقول: نعم، ثم ذكر الشيخ وجها آخر، فقلت له: أتعلم هذا؟ قال: لا، حتى ذكر فيها كمال ‌أربعين ‌وجها، يعزو كل وجه إلى قائله، والشيخ جمال الدين يقول: لا أعرف هذا الوجه، واشتد تعجبه من سعة علم سيدنا الشيخ، - رضي الله عنه -. ثم قال: نترك القال ونرجع إلى الحال، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فاضطرب الناس اضطرابا شديدا، وخرق الشيخ جمال الدين بن الجوزي ثيابه» [15].

صفاته الخلقية والخلقية:

يقول موفق الدين ابن قدامة: «كان شيخنا محيي الدين عبد القادر رحمه الله، نحيف البدن، ربع القامة، عريض الصدر واللحية، طويلها، أسمر، مقرون الحاجبين، حفيا، ذا صوت جهوري، وسمت بهي، وقدر علي، وعلم وفي» [16].

ويقول ابن العماد الحنبلي: «كان شيخ الشيوخ الشيخ عبد القادر نحيف الجسم، عريض الصدر، عريض اللّحية، أسمر، مدور الحاجبين، ذا صوت جهوريّ وسمت بهيّ»[17].

ويقول الشيخ علي الهيتي فقال: «إنه يميل إلى الطول، تبدو عليه أمارات النُّبل والاستقامة، وعريض الجبهة، يميل لونه إلى السُّمرة، يصل شعره إلى كتفيه، عريض المنكبين، متناسق الأعضاء، عذب الصوت جهوريّه، ذو نُطقٍ متميِّز، نظراته حادّة ثاقبة؛ تجعل من الصعب على جليسه أنْ يديم النظر إليه، لحيته متوسطة الكثافة، ولكنّها طويلة، رمادية اللون بعد ما تقدّمتْ به السن، دقيقة النهاية، هيئته العامة توحي بالبساطة المحببة كما توحي بالطيبة والنُّبل والجمال أيضاً» [18].

أما صفاته الخُلُقِيَّةِ: فقد كان مع جلالة قدره مع الصغير والكبير، ويجالس الفقراء ويفلي لهم ثيابهم، وكان لا يقوم قط لأحد من العظماء وأعيان الدولة، ولم يلم قط بباب وزير ولا سلطان، وكان إذا جاءه خليفة أو وزير يدخل الدار ثم يخرج حتى لا يقوم له وقد اتفقت الألسنة وشهادات المعاصرين على حسن خلقه وعلو همته، وتواضعه لله تعالى، وسخائه وإيثاره لغيره.

يقول الشيخ المعمر جرادة: «ما رأت عيناي أحسن خلقا ولا أوسع صدرا، ولا أكرم نفسا، ولا أعطف قلبا، ولا أحفظ عهدا وودا من سيدنا الشيخ عبد القادر، ولقد ‌كان ‌مع ‌جلالة ‌قدره، ‌وعلو ‌منزلته، وسعة علمه يقف مع الصغير، ويوقر الكبير، ويبدأ بالسلام، ويجالس الضعفاء، ويتواضع للفقراء، وما قام لأحد من العظماء ولا الأعيان، ولا ألم بباب وزير قط ولا سلطان»[19]. ويحكي محمد بن الخضر، عن أبيه، قال: «خدمت سيدي الشيخ عبد القادر ثلاث عشرة سنة، فما رأيته فيها يتمخط ولا يتنخع، ولا قعدت عليه ذبابة، ولا قام لأحد من العظماء، ولا ألم بباب ذي سلطان، ولا جلس على بساطه، ولا أكل من طعامه إلا مرة واحدة، وكان يرى الجلوس على بساط الملوك ومن يليهم من العقوبات المعجلة. وكان يأتيه الخليفة أو الوزير أو من له الحرمة الوافية وهو جالس، فيقوم ويدخل داره، فإذا جلس خرج الشيخ - رضي الله عنه - من داره لئلا يقوم لهم، وإنه ليكلمهم الكلام الخشن، ويبالغ لهم في العظة، وهم يقبلون يده، ويجلسون بين يديه متواضعين متصاغرين. وكان إذا كاتب الخليفة يكتب إليه: عبد القادر يأمرك بكذا، وأمره نافذ عليك، وطاعتك واجبة عليه، وهو لك قدوة وعليك حجة. فإذا وقف الخليفة على ورقته قبلها، وقال: صدق الشيخ»[20].

قال الجبالي: «قال الشيخ عبد القادر: فتشت الأعمال كلَّها، فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودُّ لو أنَّ الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفي مثقوبة لا تضبط شيئاً، لو جاءني ألف دينار لم أُبَيِّتْها» [21].

زوجاته وأولاده رضي الله عنه:

دخل الشيخ بغداد وله من العمر ثماني عشرة سنة، فانشغل بطلب العلم والسلوك، ثم بالمجاهدة والعبادة فترة من الزمن، ولم يتزوج خوفاً من تضييع الوقت؛ أضف إلى ذلك أن ظروفه لم تكن تعينه على الزواج والانفاق، وغالباً أنه لم يتزوج إلا بعد أن جاوز الثلاثين من عمره، وكان رضي الله عنه يقول: «كنت أريد الزوجة مدة من الزمان ولا أتجرأ على التزوج خوفاً من تكدير الوقت، فلما صبرت إلى أن بلغ الكتاب أجله ساق الله تعالى إلىَّ أربع زوجات، ما منهن إلا من تنفق على إرادة ورغبة» [22]، وكانت زوجاته كلهن من الصالحات المؤمنات القانتات، وكنَّ عوناً له في حياته.

قال ابن النجار في تاريخه: «سمعت الشيخ عبد الرزاق ابن الشيخ عبد القادر الجيلي يقول: وُلد لوالدي تسعة وأربعون ولداً، سبعة وعشرون ذكراً، والباقي اناثاً»[23]. وقال الجبائي: « قال سيدنا الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه -: كان إذا ولد لي ولد أخذته على يدي، وقلت: هذا ميت فأخرجه من قلبي، فإذا مات لم يؤثر عند موته شيئا؛ لأني قد أخرجته من قلبي أول ما يولد، قال: فكان يموت من أولاده الذكور والإناث ليلة مجلسه فلا يقطع المجلس، ويصعد على الكرسي، ويعظ الناس، والغاسل يغسل الميت، فإذا فرغوا من غسله، جاؤوا به إلى المجلس، فينزل سيدنا الشيخ، ويصلي عليه»[24].

أما من عاش من أولاده الذكور رضي الله عنه فهم: عبد الله، وعبد الوهاب، وعبد الرزاق، وعبد العزيز، وعبد الجبار، وإبراهيم، ومحمد، وعبد الرحمن، وعيسى، وموسى، وصالح، وعبد الغني، ويحيى،

وأما البنت فهي: أمَةُ الجبار فاطمة، رضي الله عنهم أجمعين.

مؤلفات رضي الله عنه:

لقد ألف الشيخ الكثير من الكتب، منها ما وصل إلينا، ومنها ما لم يصل، ومنها المطبوع ومنها المخطوط، كما ينسب له الكثير من الكتب منها ما تصح نسبته له، ومنها ما لا تصح، وسنذكر فيما يأتي أهم وأشهر الكتب التي ثبتت نسبتها للشيخ رضي الله عنه: الغنية لطالبي طريق الحق، والفتح الرباني والفيض الرحماني، وفتوح الغيب، وسر الأسرار، والطريق إلى الله، وجلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر، وتنبيه الغبي إلى رؤية النبي، ومعراج لطيف المعاني، وديوان الشيخ عبد القادر الجيلاني، ورسائل ومكتوبات الشيخ عبد القادر، عدة رسائل في الأوراد وكار والصلوات .

كراماته رضي الله عنه:

لقد أكرم الله الشيخ بكرامات كثيرة، وأكثرها ورد بأسانيد صحيحة متواترة، وقد شهد بذلك الكثير من العلماء والعارفين نذكر منهم:

ويقول موفق الدين ابن قدامة: لم أسمع عن أحد يحكي عنه من الكرامات أكثر ممَّا يحكي عن الشيخ عبد القادر»[25].

ويقول محب الدين النجار في تاريخه: «أحد الأئمة الأعلام صاحب الكرامات الظاهرة» [26].

ويقول سلطان العز بن عبد السلام: «إنه لم تتواتر كرامات أحدٍ من المشايخ إلا الشيخ عبد القادر فإن كراماته نقلت بالتواتر»[27].

يقول شيخ الإسلام الإمام النووي: «ما علمنا فيما بلغنا من الثقات الناقلين وكرامات الأولياء أكثر مما وصل إلينا من كرامات القطب شيخ بغداد محيي الدين عبد القادر الجيلي رضي الله تعالى عنه»[28].

ويقول ابن تيمية: «كرامات الشيخ عبد القادر ثابتة بالتواتر» [29].

ولو أردنا سرد كرامات الشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنه لاحتجنا كتاباً كاملاً في ذكرها ولما انتهينا، فهي أكثر من أن نذكرها، وقد امتلأت به كتب السير والتراجم التي تزينت بسيرة الشيخ قدس سره.

وفاته رضي الله عنه:

أما وفاته رضي الله عنه فقد أجمع المؤرخون على أنها كانت في ليلة السبت العاشر من شهر ربيع الثاني سنة: (561هـ) وذلك على أرجح الأقوال، وقد فرغوا من تجهيزه ليلاً وصلى عليه ولده الشيخ عبد الوهاب الكيلاني في جماعة من حضر من أولاده وأصحابه، ثم دفن في رواق مدرسته في باب الأزج ببغداد، ولكثرة الزحام لم يفتح باب المدرسة حتى علا النهار وأُهْرِع الناس للصلاة على قبره وزيارته وكان يوماً مشهوداً من أيام بغداد دار السلام، وكان عمره يوم وفاته واحداً وتسعين سنة، قضاها كلها في سبيل الله تعالى، متعلماً وعالماً ومعلماً، وداعياً إلى الله تعالى هادياً إليه، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء والعارفين الذين أناروا الدنيا في المشارق والمغارب بعلومهم ومعارفهم، ولا يزال نوره سارياً في قلوب العباد إلى هذا اليوم، رضي الله تعالى عنه وأراضاه ونفعنا ببركته، وأفاض علينا من نوره.

المصدر: الثمر الداني في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني

(1) هذه الترجمة مختصرة من كتابنا: (الثمر الداني في مناقب الشيخ عبد القادر الجيلاني).

(2) ذكره السخاوي في نتيجة التحقيق والحافظ الذهبي في تاريخه الكبير وسبط ابن الجوزي في مرآة الزمان والشطنوفي في بهجته والعسقلاني في غبطته والتاذفي في قلائده، وغيرهم.

(3) ذهب أكثر المؤرخين قديماً وحديثاً أنه ولد في جيلان فارس، وذكر المؤرخ الدكتور جمال الدين فالح الكيلاني أن ولادته في جيلان العراق، وقد حقق هذه المسألة ودلل عليها في كتابه: (جغرافيا الباز الأشهب)، يمكن الرجوع إليه والاطلاع على هذا التحقيق.

(4) يقول ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (ج4/199): أن أخاه كان اسمه عبد الله وكان أصغر منه وكان رجلاً صالحاً عاش في جيلان وتوفي فيها وهو شاب والراجح أنه أكبر منه.

(5) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 82).

(6) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 80).

(7) طبقات الحنابلة ج2 ص 302.

(8) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 95).

(9) طبقات الحنابلة ج2 ص 63.

(10) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 91).

(11) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ج18 ص 173.

(12) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 92).

(13) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 92).

(14) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 85).

(15) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 91).

(16) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 80).

(17) انظر شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (ج6/331).

(18) الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 129.

(19) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 81).

(20) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان (21/ 81).

(21) سير أعلام النبلاء للذهبي ج20 ص 447.

(22) عوارف المعارف ط دار الكتب العلمية، ص 101.

(23) تاريخ الإسلام - ت بشار» (12/ 260)، سير أعلام النبلاء - ط الحديث» (15/ 184).

(24) مرآة الزمان في تواريخ الأعيان» (21/ 98).

(25) ذيل طبقات الحنابلة ج 2 ص 192

(26) تكملة إكمال الإكمال في الأنساب والألقاب تحت رقم 337.

(27) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 134، سير أعلام النبلاء للذهبي ج 20 ص443.

(28) قلائد الجواهر ص 137 نقلا عن بستان العارفين.

(29) تكملة إكمال الإكمال في الأنساب والألقاب تحت رقم 337.