فصل في بيان الخواطر
الكاتب: الشيخ مخلف العلي القادري
فصل في بيان
الخواطر والواردات
اعلم أخي السالك أن الخواطر سوف تكثر عليك في
الخلوة، وسيكون منها خواطرُ شرٍ لن تتركك حتى تخرجك من خلوتك وتقطعها عليك إن
استطاعت، وأخرى خواطرُ خيرٍ سوف تكون لك عوناً على الأخرى حتى تثبتك في خلوتك، فكن
على حذر وتنَّبه من كل ما يَرِدُ عليك من خواطر وواردات وأفكار ووساوس، لأنها
تعتبر العدو الأول والأكبر لك، وسأشرح لك ها هنا بعض الأمور لتستعين بها على
مواجهة الخواطر في الخلوة وتعرف كيفية التعامل معها، واعلم أن الخواطر التي تأتيك خمسةُ
أنواع وهي (الرباني، الملكي، القلبي، النفسي، الشيطاني) وسأشرحها لك فيما يلي:
الخاطر الأول وهو الخاطر الرباني:
وهو ما يَرِدُ عليك ويُقْذَفُ في قلبك من قبل الرحمن
ويسمى هذا النوع بالخطاب، وقد يسمى بالوارد، وقد يسمى بالإلهام وتختلف تسميته حسب
حال العبد مع ربه ودرجته عنده، فهو خطاب من الله تعالى له، وهذا النوع لا يأمرك
إلا بالقربات والأعمال الصالحة وما فيه خيرك وصلاحك ومنفعتك، ومن شأنه أن يُذَكِّرَك بالعظمة والجلال والهيبة
والخشية، وبالتوحيد والحب والرحمة، ويكون
هذا النوع من الخواطر خالياً من أي شبهةٍ أو جهالةٍ، وموافقاً لمراد الخلوة
وغايتها التي من أجلها شرعت، وهذا النوع غالباً يبدأ بعد
الانتهاء من النفس الامارة وبدء النفس اللوامة.
وأمثلة
هذا الخاطر هو كل وارد يأمرك بتصحيح العبادة واستقامتها بين يدي ربك في الخلوة،
وحسن المعاملة مع الخلق خارجها، ومن علاماته أنه لا يزول ولا
يندفع بسهولة، بل يلازم القلب والعقل والجوارح حتى يشغل الإنسان ويسيطر عليه حتى يفعل
بمقتضاه، ولا يزال يلوم ويحث ويدفع الخلوتي على ذلك حتى ينجزه، وكما قال سيدي عبد
القادر: لا يأتي بطلب ولا يزول بسبب،
وتنخمد أمامه نيران ووساوس الشيطان وشهوات النفس وهناتها وهفواتها، ومن علاماته الخشوع والقشعريرة والدمعة والرهبة، ويعقبه
فتح من الله تعالى بالمعرفة
بكلام الله عز وجل، وفهم ما كان يجهل منه، وكشف ما غاب عنه من قبل، والإحاطة بالحكمة
من بعض الأمور والحوادث.
الخاطر الثاني وهو الخاطر المَلَكِيُّ:
وهو ما يُقْذَفُ في قلبك من الله تعالى عن طريق الـمَلَكِ،
ويسمى هذا النوع بالإلهام ويسمى باللَمَّةِ، وهذا النوع من الخواطر يأمر بالطاعات
وينهى عن المخالفات، وغالباً ما يأتي كردةِ
فعلٍ ومواجهةٍ للوساوس والخواطر المنبعثة من الشيطان والنفس التي تحث وترغب
بالمعاصي والذنوب، فهو يأتي كالغوث والنصر لك للوقوف بوجه خواطر النفس والشيطان،
لذلك قد يكون بما يلقيه إليك فيه شيء من الشك والشبهة وهذا الشك مصدره الشيطان
والنفس ليمنعاك من العمل بمقتضاه، فيخوض العبد في حالة هبوط هذا النوع من الخواطر
صراعاً داخلياً ما بين الرغبة بالعمل به والامتناع عنه، لأنه في حالة مواجهة مع شهوة
النَّفس وتزيين الشيطان لخلافه، فهو في حالة حرب معهما فيصبح العبد في حيرة من
أمره حتى ينتصر أحدهما على الآخر.
وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي
اللهُ عنه قال: ((قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَـمَّةً
بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَـمَّةً، فَأَمَّا لَـمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ
بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَــــــقِّ، وَأَمَّا لَـمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ
بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ
مِنْ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ
بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)).
واعلم أن خاطر الـمَلَكِ يكون تحريضاً على العبادة
غالباً، ويكون موافقاً للعلم والشرع، إما أمرٌ بـمعروفٍ أو نهيٌ عن مـنكرٍ، أو إيحاءٌ
بعمل الخير وتذكيرٌ بأهل الصلاح والإيمان، أو إلهامٌ بأفكارٍ صافيةٍ سليمةٍ، والواجب
عليك أيها المريد اتباعه والعمل بمقتضاه دون تردد، ودون تمهل وتفكير، بمجرد ما
شعرت أنه يَرُدُّ عنك شيئاً من شهوات النفس ووساوس الشيطان، وعلامة هذا الخاطر أنه
يعود عليك براحةٍ شديدة وطمأنينةٍ وحصول برد تجده في قلبك وجوانحك ولذَّة بعد
العمل بمقتضاه، ثم يعطيك راحة في
النفس وسلامة في الصدر وبهجة في الوجه، تلي عمل الخير مع
إشراق القلب بشيء من العلوم الباطنية في هذا الجانب، ولا يعتريك أي لومٍ أو ندم
بعده.
ومما يقوي هذا النوع من الخواطر تعاهدك قراءة القرآن
وتدبره والتفكر فيه على الدوام، حتى يتآلف قلبك وعقلك وروحك وجوارحك كلها مع خطاب
الله، فيتقوى الإدراك عندك، فتعيش بروحك وكيانك مع أمر الله ونهيه في مختلف الظروف
والأحوال، وبهذه الحالة يصبح كلام الله مألوفاً لديك تسمعه أذناك ويهتف به قلبك ونستجيب
له عند كل تلاوة، فهو أعز وأقدس كلام في الوجود، فيجب أن يصبح أحب الكلام إليك،
ونفس الحالة مع الذكر والأوراد.
الخاطر الثالث وهو الخاطر القلبي:
وهو ما ينبع من القلب ويكون موجهاً إلى العقل المسؤول
الحقيقي عن إعطاء الأمر للجوارح بالعمل ويسمى هذا النوع من الخواطر بالهاتف، وهذا
الخاطر قد يكون خيراً وقد يكون غير ذلك، ويتوقف هذا على قوة اتصال قلبك مع الله،
وحالك من حيث الصلاح والفساد، والسقم والسلامة، وهذا النوع من الخواطر يجب الحذر
منه والتعامل معه بدقة، وهو يكون شبيهاً بالخاطر الملكي من حيث وجود الشبهة والشك فيه،
غير أنه أشد شبهة وغموضاً، وذلك لأمرين:
الأول:
قد يكون مصدره
الحقيقي هو النفس والشيطان، وهذا في حال فساد القلب وقسوته وغفلته واستسلامه لسلطة
النفس والشيطان والهوى، فَيُستخدم من قبلهم للتدليس على صاحبه وإغوائه.
الثاني:
المواجهة له
والوقوف بوجهه إن كان مصدره القلب السليم المتصل بالله من قبل الشيطان والنفس كما
هو حال الخاطر الملكي كما بينا سابقاً، فهو سيواجه ويحارب من قبلهما حتى يمنعاك من
العمل بمقتضاه.
لذلك يكون الخاطر القلبي في شبهة وغموض، وهذا الكلام
فيما يتعلق بحال السالكين، أما حال الأولياء والعارفين فهم فوق هذا، فهم قادرون
على التمييز الكامل والتفريق بين الخواطر، بل إن الله تعالى حفظهم منها.
لذلك لا ينبغي للسالك المضي وراء الخاطر القلبي بدون
بينة واطمئنان له، فكم أوقع الشيطان من المريدين في هذا الفخ فأرداهم في حفر الغي
والضلال، فهو كما قلنا فيه شيءٌ من الريبة والقلق والتردد لعدم قوته ولقلة وضوحه،
كأنه مغطى بغطاء لا ينكشف على حقيقته إلا بعد بيان نتيجته وثمرته، ويكون متقلباً
وسريع الإنتقال بنفس الوقت، مما يورث التشتت والحيرة عند العبد.
ويجب أن تعلم أن هذا النوع من الخواطر تارة يأمرك
بزيادة بعض الأعمال، وتارة يأمرك بإنقاص بعضها، وتارة يأمرك بترك بعض الأعمال
ويظهر لك علة فيها، وتارة يطلب منك استبدال عمل بعمل غيره، وتارة يحاول الحث على
التغيير ببعض المعتقدات عند السالك، ويجب أن تلاحظ أنه تارة يكون فيه اطمئنان لما
يلقيه إليك، وتارة يكون فيه شبهة وتردد وحيرة.
وهذا النوع من الخواطر غالباً ما يكون هو المسؤول عن
تقلب السالكين بالأوراد وعدم ثباتهم عليها، لأنه يدفعهم لتغير الأوراد تارة وتركها
أخرى والزيادة مرة والنقصان مرة، ويوهمهم بأن الفتح ببعض الأوراد اكثر من غيرها،
فيصبح المريد يتنقل بين الأوراد ولا يثبت على ورد معين بسبب ما يأتيه من الخواطر
من قلبه فينصاع لها ناسياً أنه مازال في مرحلة السلوك وليس مؤهلاً لتحكيم قلبه في
سيره وسلوكه، عافانا الله تعالى وإياكم، والواجب على المريد في التعامل مع هذا
النوع من الخواطر كما يلي:
مدافعته في الحالات
التالية:
· إن كان مقتضى الخاطر مخالفاً للكتاب والسنة ومنهج
القوم، ومثاله كل خاطر في الحث على فعلٍ حرامٍ أو مخالفٍ للسنة، كمن ينام مخالفاً
للسنة تأدباً مع شيخه فلا يمد رجله تجاه مقامه، وينسى أنه أساء الأدب مع رسول الله
صلى الله عليهِ وآلهِ وسلم.
· إن كان مقتضى الخاطر مخالفاً لتعاليم شيخه ومرشده
وطريقته، ومثاله تغيير أوراده أو تركها وترك بعض التعاليم والإرشادات واستبدالها
بغيرها، فهو بهذا خالف تعاليم شيخه وفي هذا مخالفة الأصل والخسران.
· إن كان مقتضى الخاطر مما يجهله المريد ولا يعرفه مهما
كان ذلك، ومثاله ما يأتيك لتصلي صلوات أو تذكر بأذكار أو تدعو بدعوات ليس لها أصل
في الشريعة، أو فعل آداب لم يقل بها أحد من العارفين.
موافقته في الحالات
التالية:
· إن كان مقتضى الخاطر موافقاً للكتاب والسنة ومنهج
القوم، ومثاله كل خاطر فيه حث على العبادات والأذكار والسنن والنوافل، وفق الشريعة
كالزيادة بقيام الليل وقراءة القرآن بدون الإخلال بالواجبات الأخرى.
· إن كان مقتضى الخاطر موافقاً لتعاليم شيخه ومرشده
وطريقته، كفعل ما فيه زيادة محبة الشيخ والصالحين، وزيادة التمسك بالآداب في كل
الأحوال مع شيخه وإخوته والمسلمين.
· إن كان فيه تصحيحٌ لما وقع به السالك من أخطاء
والرجوع عنها، ومثاله كل خاطر يأتيك فيه تصحيح لخطأ صدر منك والرجوع عنه، كقضاء
الأوراد التي تفوته.
إحالته للشيخ في
الحالات التالية:
· إن كان مقتضاه مما يجب مدافعته ولكنه لم يندفع وبقي
ملازماً له، وهذا يتعلق بكل خاطر مخالف
للكتاب والسنة ومنهج القوم، وكل خاطر مخالف لمنهج شيخك وتعاليمه، وكل خاطر تجهل
حقيقة العمل به.
· إن لم يكن مقتضاه مخالفاً ولا موافقاً وللمريد علم به،
وهذا كثيراً ما يعتري السالكين، كالخواطر التي تحث على العمل بأوراد أخرى لم يأمرك
بها شيخك من أوراد الطرق الأخرى أو غيرها.
· إن كان فيه تشويش على المريد في المعتقدات الإيمانية
والسلوكية، كالقول بعصمة الأولياء، أو اتهام الشيخ والشك به، ومن هذا القبيل فيجب الرجوع إلى الشيخ فوراً للقضاء عليها فهو
أعلم بعلاجها.
الخاطر الرابع وهو الخاطر النفسي:
والخاطر النفسي هو همس النفس الخفي الدقيق، الذي يتضمن
الأفكار الممزوجة بصور تصور الشهوات والرغبات والشبهات، والتي تنبعث من نفس الإنسان التي بين جنبيه إلى عقله الباطن
ثم يوزع وينتشر إلى جميع مكونات الإنسان، ويكون قوياً شديداً ملازماً لا يزول ولا
يحول حتى يندفع بقوة أكبر منه منبعثة من داخل القلب السليم بمددٍ من الروح أو بقوة
خارجية كوارد ملكي أو وارد رباني أو مدد من أهل الله، ويسمى هذا النوع من الخواطر بالهاجس،
ويعتبر الأخطر على الإطلاق بين الخواطر، لأنه يوجه للعقل وللقلب وللقرين وللجوارح
وتنشغل كلية الإنسان به، وهنا تكمن خطورته ومواجهته هي الجهاد الأكبر، ويكفي أن
نعلم أن أكبر الجرائم في البشرية هي من
وساوس النفس، بدءاً من خروج آدم من الجنة، إلى قتل هابيل، إلى سجن يوسف، وغيرها
الكثير.
واعلم أن النفس هي مدخل الشيطان إلى الإنسان، وهي
بابه للضلال والإغواء والتزيين، وهي أول من يستجيب لوساوسه، فإذا فسدت بالكامل
صارت هي الغالبة، بل يتضاءل خطر الشيطان أمامها.
ومما يجب أن تعلمه أن النفس تبث خواطرها على خمس
مراحل تنتقل من مرحلة لأخرى بشكل تدريجي كما يلي:
ففي
المرحلة الأولى: تبدأ بتزيين المباحات لك والأمر بها، مخادعة إيَّاك
بأن هذا من حقها عليك، ويجب أن تؤدي حق كل ذي حق، وإن لنفسك عليك حقاً، ومن
الأمثلة على ذلك كثرة الأكل والنوم والكلام، فإذا انخدعت لها وألفت المباحات، بدأت
الغفلة تتغلغل في نفسك وجوارحك، عندها تنتقل للمرحلة الثانية.
وفي
المرحلة الثانية: تنتقل وتتحول لتزين لك المكروهات مخادعة إيَّاك بعدم
ترتب العقاب عليها، وأن نجاتك بالفرائض وحدها، وأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها،
فإذا انخدعت لها وألفت المكروهات انطفأ نور قلبك فيصبح أعمى غير مبصر للنور والهدى
قال تعالى:(فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) [الحج: 126]، وفي هذه الحالة
تكون النفس قد قطعت عنك كل الواردات والمعونات الأخرى التي من شأنها تبصرتك بنور
الحق والهدى والإيمان، وهنا تبدأ النفس بالمرحلة الثالثة.
وفي
المرحلة الثالثة: تبدأ النفس بالأمر بالمخالفات وتزينيها لك مخادعة إيَّاك
بأن الله هو الغفور الرحيم، وأن العمر مازال طويلاً والأمل كبيراً، فاغتنم حياتك
ولا تفوت على نفسك المتعة واللذات والشهوات، وأن باب التوبة مفتوحاً فلا تقلق،
فإذا انخدعت لها واتبعتها، مرض القلب ودخل في السقم، وبدأ يغلف بظلمة الذنوب
والمعاصي، ثم بعد ذلك تنتقل بك للمرحلة الرابعة.
وفي
المرحلة الرابعة: تبدأ النفس بالأمر والحث على ترك الفرائض، مخادعة إيَّاك
بأن الفرائض والطاعات لا تقدم ولا تؤخر ولا تنفعك وأنت غارق في المعاصي، وتقنعك بأن
الطاعات مع المعاصي لا تنفع، وتبقى توسوس لك حتى تترك الطاعات وتصبح أسيراً
للمخالفات، فإذا انخدعت لها فعندئذٍ يستحوذ الران على قلبك حتى يغطيه فيصبح قاسياً
كالحجر لا يتأثر ولا يتعظ ولا يعتبر، ثم يبدأ قلبك بالموت تدريجياً، وعندها تصبح
لاحول لك ولا قوة وجندياً من جنود النفس، وبعدها تبدأ المرحلة
الخامسة.
وفي
المرحلة الخامسة: والتي هي الأخطر تنتقل للوسوسة لك في معتقداتك
الإيمانية ثم لا تتركك حتى تخرجك من دينك، وتكفر بالله عز وجل إن استطاعت، وتكون
بهذه الحالة كالجندي الـمطيع للشيطان، وتطبيق هذه المرحلة يكون سهلاً عليها بعد
موت القلب، إلا أن يتداركك الله تعالى بمدد منه ورحمة، ويهيئ لك من أمرك رشداً،
نسأل الله تعالى لنا ولكم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا
والآخرة، آمين.
وأما علامات هذا الخاطر التي تميزه عن غيره فهي
كالاتي:
1)
من
أهم علامات هذا الخاطر هو الثبات على وسوسته فلا ينتقل لغيرها بل يكرر ويلح عليك ولا
يمل حتى تنفذ ما يمليه عليك، وقد وصف الله النفس في كتابه فقال: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ
رَبِّي) [يوسف: 53].
2)
تولد
الشعور باللوم والعتب، وملازمته لك مع تكرار الخاطر بشكل دائم، وفي كل مرحلة ينمو
هذا الشعور، ثم يتحول للحزن، والهم والغم، مع الشعور بالضيق الدائم، حتى تصبح
معيشتك ضنكاً.
3)
الانقباض
والقلق، وتكدر القلب، وضيق الصدر، بعد الوقوع بكل مخالفة دافعها وسواس النفس، ثم الشعور
بالعجز بعدها مع وجود التعلق بها، والشوق لها بين الحين والآخر مع الخوف منها.
4)
هذا
النوع من الخواطر يهاجمك غالباً وقت الفراغ وقبل النوم لأن العقل يكون مستعداً
للتلقي، وعند الحزن والهم لضعفك، فيغتنم الحال التي أنت فيها فيهاجمك بتزيينه ويبث
وسوسته لمعرفته بنقاط الضعف.
5)
ومن
علامات هذا الخاطر أنه لا يوسوس إلا بالمخالفات والمعاصي وترك الالتزام والطاعة
والتمرد، ولا يلبس عليك كما يفعل الشيطان بل تكون وساوسه ظاهرها كباطنها، ويفضحه
إلحاحه كما قلنا.
والوقوف بوجه هذا
الخاطر والخلاص منه والانتصار عليه لا يكون إلا بالمجاهدة والمخالفة لها، فالنفس
لا تتأدب إلا بهما، وأهم الأمور التي تقوي سيطرتك على خواطرها هو الصيام والصلاة والقيام
وقلة الطعام والكلام، وكثرة العبادة وتطبيق السنن والنوافل، والإكثار من ذكر الله
تعالى لأن هذه الأعمال تجعل القلب حياً قوياً سليماً، وهو وحده القادر على ربط
لجامها وإيقافها عند حدودها فلا تتمادى ولا تقوى، وكذلك صحبة الصالحين ومجالستهم
على الدوام لأن نورهم يحرق حظ الشيطان فيها، فإن تعذرت مجالستهم فعليك بقراءة
سيرهم وكتبهم فإنها تعينك إن شاء الله.
الخاطر
الخامس وهو الخاطر الشيطاني:
وسمي الشيطاني نسبة
لمصدره وهو الشيطان، وهو العدو المبين للإنسان، ولا يقل خطراً عن الخاطر النفسي،
ويصعب التفريق بينهما، فهو الذي أخرج أبا البشر آدم عليه السلام من الجنة، فكتب
الله أن يكون للإنسان عدواً مبيناً إلى يوم القيامة، فلا نجاة ولا خلاص منه إلا
بالاستعانة بالله ربِّ العالمين وبالمجاهدة، وباتخاذه عدواً كما أمر الله تعالى، ويسمى
هذا النوع من الخواطر بالوسواس ويسمى بالنزغ ويسمى باللَّمة، وهو يعمل على سبعة محاور رئيسية
سأذكرها لك ثم أذكر علاجها، ثم أذكر
علامات هذا الخاطر وهي:
المحور الأول: يوسوس ويأمر بالمعاصي الظاهرة ويزينها في
قلبك حتى تقع فيها مخادعاً إيَّاك بطول الأمل وسعة رحمة الله تعالى وعظيم مغفرته،
وأن باب التوبة مفتوح لا يغلق، ويستمر بالوسوسة لك ويحثك على الفعل، ويدخل إليك من
هوى النفس، حتى تقع بالمعصية والمخالفة، ولا تصحو على نفسك إلا بعد فوات الأوان،
فتعرف أنك قد وقعت في شباكه، ومثال هذا الوسوسة الوقوع في الكبائر والصغائر
العملية والقولية وهي غنية عن الشرح، وأهمها فتنة النساء والرجال، والغيبة
والنميمة وأكل الحرام وغيرها من المعاصي والذنوب، ولكن يجب أن تعلم أن الشيطان
يستعمل كل الوسائل الممكنة ليسقطك في شباك المعصية ويبقى ملازماً لك إلى أخر لحظة
فإذا فرغت من معصيتك غاب عنك لتصحو وتعرف شؤم ونتن المعصية، وهذا خبث منه شديد
ليحملك فوق ذنبك ضيق النفس وخبثها جراء فعلها.
المحور الثاني: الوسوسة لفعل نوع من المعاصي المستورة
بثوب القربات والطاعات، وهذا هو تزيين الأعمال، أو لَبْسُ الباطل بالحق، ويفعل هذا
مخادعاً إياك بفعل الخيرات التي غفلت عنها، أو بتقديم النفع والخير للآخرين، أو
يخادعك بالطمع بالفضل الأعظم والأكبر والمفاضلة بين الأعمال، ومن أمثلة هذه
المعاصي الغيبة والنميمة بغاية الإصلاح، وتقديم الخير للآخرين فتقع في الكبيرة
وتثير فتنة عظيمة، دون أن تشعر بذلك وكانت الغاية هي فعل الخير، ومن أمثلة ذلك ترك
بعض الأعمال خوفاً من العجب والرياء، كالوسوسة بترك الجماعة في المسجد، وقد يحثك
على عدم حمل السبحة، وترك لباس السنة، وكذلك قطع الأرحام وعقوق الوالدين بذريعة
أنهم عصاة لله، ويكفي أن نذكر لك أنه أغوى أبانا آدم بالأكل من الشجرة طمعاً
بالخلد والقرب من الله تعالى، وفي هذا عبرة كافية، فكن على حذر منه في هذا النوع
فهو أكثر باب يقع فيه السالكون هذه الأيام.
المحور الثالث: الحث على بعض أعمال الخير تمهيداً لغمسك
في معصية، وهذا المحور يعتبر الأخطر على الإطلاق من محاور وسوسة الشيطان ونزغه،
وهو المحور الذي يهاجم به أهل السلوك والعلم والمعرفة، ويجب أن تعلم أن الشيطان
لديه صبر عظيم في سبيل تحقيق هدفه على هذا المحور لأنه المحور الذي يوقع به خواص
العباد من المخلصين والصادقين، ومن أمثلة ذلك الدخول في المجادلات وكثرة الثرثرة بنية
نشر العلم والدعوة فإذا بك تقع فريسة البغضاء والعداوة والسباب والشتائم والجدل مع
الآخرين وكل ذلك في سبيل العلم والدعوة فتخرج عن غايتك إلى حفرة أخرى يصعب الخروج
منها، ومن أمثلة ذلك الحث على الدعوة والنصيحة للنساء أو العكس، فيزين لبعض الرجال
مخالطة النساء بنية الإصلاح والعلم والنفع، ويزين للمرأة الاختلاط بالرجل بنية
العلم والانتفاع، فإذا بهم يجدون أنفسهم على أبواب المعاصي دون أن يشعروا فيسقطون
فيها إلا ان يتداركهم الله تعالى برحمته، وما أكثر الأمثلة على ذلك في هذا الزمن،
عافانا الله تعالى وإياكم.
المحور الرابع: الوسوسة على القلب والعقل لإفساد
المعتقدات والأفكار، وعلاقاتك بالآخرين، للزج بك في الكفر والشرك والشك
والاتهام لربِّ العالمين وللأنبياء
والعارفين، ولتبغيض المسلمين على قلبك، وزرع الشك بمشايخك وإخوتك في قلبك، مخادعاً
إياك بضرورة البحث والتفكر والتعلم واكتشاف الحقائق، وهذا يعتبر المحور الأخطر من
حيث نتائجه، وهذا هو النزغ الذي أمرنا الله أن نستجير ونستعيذ به منه لشدة خطره،
وفي هذا يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه: خاطر الشيطان هو ما يأمر
بالكفر، والشرك، والشك، والتهمة لله تعالى في وعده، وفي الفرح بالمعاصي والتسويف
بالتوبة، وما فيه هلاك النفس في الدنيا والآخرة، وقد وصفه المصطفى صلى الله عليه
وآله وسلَّم في الحديث الذي سبق ذكره بقوله: ((فَأَمَّا
لَـمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَــــقِّ)) .
المحور الخامس: وهو محور خفي يتمثل في الوسوسة على إظهار
الاعمال بالقول والفعل، مخادعاً إياك بأمرين، الأول: التحدث
بنعمة الله تعالى وإظهارها، والثاني: ليتعلم الناس منك ويقتدوا بأفعالك في فعل
الخيرات، وهذه مصيدة خطيرة للشيطان ليستدرجك إلى أخطر الأمراض القلبية كالعجب
والكبر والرياء وحب السمعة والظهور، ثم يوقعك بهاوية أخرى وهي تسليط الناس عليك
بألسنتهم لاتهامك بصدقك وإخلاصك وأخلاقك فيوقعك في فتنة عظيمة، إما أن تنقاد
لتواجه الناس وترد عليهم وتقع في خصومات وفتن تنسيك ربك، أو تترك الأعمال وترجع
إلى ما بدأت به، فكن على حذر عظيم من هذا المحور الخطير، فكم من سالك بقي سنوات في
خلوته ولم يفتح عليه بسبب خصوماته وامتناعه عن إصلاح ذات بينه، وبسبب الغل والحقد
على المسلمين.
المحور السادس: وهو الوسوسة للأهل والأقارب والأصدقاء
والناس من حولك وتسليطهم عليك، إما بالعداوة والبغضاء أو بالمحبة الزائدة أو
الغيبة والنميمة، وغايته إشغالك عن طريق الله تعالى، فكم من سالك ترك الطريق وقطع
الخلوة بسبب حب الزوجة والأولاد والانشغال عليهم، وكم من سالك ترك الطريق بسبب ضغط
والديه وإخوته عليه، وكم من سالك ترك الطريق بسبب بغض أقاربه ومحاربتهم له، وعلى
رأس هذا الخطر الحياء من الناس الذي يمنعك من أمور كثيرة، فتارة يخادعك بوجوب أداء
الحقوق للغير، وتارة يخادعك بضرورة الكتمان، وتارة يخادعك بأن ما لك عند الله
سيأتيك سواء عملت أم لم تعمل، داعياً إياك للقعود عن العمل، ولا يزال يمارس هذا
النوع من الوسوسة حتى يبعدك ويشغلك، وهذا النوع مارسه إبليس حتى على الأنبياء
والمرسلين وهو من أشهر محاور وسوسة الشيطان على العباد أجارنا الله تعالى وإياكم.
المحور السابع: وهو نوع من أنواع الوسوسة الخطيرة التي
قل من يشعر بها، وهي إظهار الخوارق والكرامات والمعونات على يديك أمام الآخرين،
وكذلك التمثل لك في المنام واليقظة برؤى صالحة ليفتنك، ويأتيك من كل جانب، ولا
يترك سبيلاً في إقناعك بأنك رجل صالح وعالم فاضل، وأنك من المفتوح عليهم، وأنك على
خير ومن أهل العناية، فيريك مرائي تسرك ويحدث لك بعض الأمور الخارقة، مخادعاً إياك
بأن الله يريد أن يظهرك في الناس لحكمة يريدها الله تعالى فيحثك على التقدم بهذا، وكل
هذا ليجرك للإعجاب بنفسك ويوقعك بفخ الغرور، وهذا النوع حدث مع كبار العارفين كسيدي
عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لـمَّـا ظهر له على هيئة نور في السماء وقال له
أنا ربك قد حللت لك المحرمات فنجاه الله تعالى منه، وحدث مع غير واحد من الصالحين
فمنهم من نجا ومنهم من وقع بذلك، نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وأما كيفية المواجهة
والتصدي لهذا الخاطر فاعلم أن مواجهة الشيطان في كل محاوره تكمن بوسيلة واحدة وهي
مجاهدة النفس، فكلما ضيقت على النفس وخالفتها كلما قل حظ الشيطان منك، وهناك بعض
الخصال التي تعينك على مواجهته والوقوف بوجهه وصده وهي:
1) الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى كلما جاءك
خاطر شيطاني.
2) صحبة شيخٍ مرشدٍ عارف بالله، فإن صحبته
تعطيك قوة في الوقوف أمام هذا الخاطر وتجعله ضعيفاً أمامك، ويحسب حساباً لمن أنت
بصحبتهم.
3) كثرة المجاهدة وخصوصاً الصيام والقيام
وكثرة الأذكار في كل حال.
4) الاستعانة ببعض المجربات الواردة عن
العارفين، وقد ذكرنا لك في الكتاب فائدة مهمة لدفع الوساوس.
5) الاستعانة بالله عز وجل على الشيطان فهو
الناصر والمعين الحقيقي لك
علامات الخاطر الشيطاني:
وأما علامات هذا الخاطر
عند حضوره إلى السالك فهي التقلب والتنقل من معصية إلى أخرى، ومن فكرة إلى أخرى،
فليس غايته أن يجرك لمعصية بعينها، بل غايته جرك للمخالفة بأي شكل من الأشكال،
فهمه الوحيد هو جرك للمخالفة والمعصية بغض النظر عن نوعها، صغيرة كانت أم كبيرة،
في حق العباد أم في حق نفسك أم في حق الله، بخلاف الخاطر النفسي فهو يثبت على
مخالفة ولذة بعينها، فلا يزول عنك حتى يوقعك بها أو تصرفه، لأن النفس تطلب المعصية
بمقتضى طبعها المجبول على المخالفة، فلا تريد أن تنفك عنك حتى تنال شهوتها.
وأما الشيطان فليس طلبه
منك أن تنال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة
للعقاب، فهمه إقحامك بالمخالفة والمعصية لتكون مثله بين يدي ربه، لذلك تراه كلما
دعاك إلى واحدة وتعسرت أو تلكأت عليه فيها دعاك إلى أخرى لتقوم مقامها في المقصود،
وهو حصول الإثم والسقوط من عين الله، فيمنيك ويأتيك من كل الجهات بعدة خواطر
متفرقة سريعة متقلبة وهذا من كيده ومكره حتى يصل لنقطة ضعف فيك يضربك منها، فهو
الوسواس الخناس، يوسوس ثم يتراجع، ثم يقترب، ثم يأتي عن اليمين ثم عن الشمال وكل
هذا وهو يغري بالمعاصي وينوعها، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، وكلما رفضت
إغراءً معيناً خطر لك غيره لعله يستهويك، أما علامته بعد حصوله فهو يورث عند
السالك اضطراباً في الأعضاء فتارة يشعر بالبرد وتارة يتعرق، وممكن أن يقوم ويقع،
ثم إذا أنجز ما أمره الخاطر به حصل عنده ألم في القلب، ثم ينزل به الندم ثم النكد
والغم والهم والضيق الشديد.
أخي السالك: بهذا نكون قد بينا لك كل ما يتعلق
بالخواطر لتعرف ما يواجهك في خلوتك وخارجها فأسأل الله تعالى أن يوفقك لما فيه
الخير إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين.
نقلاً عن كتاب
العقد الفريد في بيان خلوة التوحيد
للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري
حقوق النشر والطباعة محفوظة للمؤلف