جديد الموقع
الوفاء لأهل العطاء => مقالات وأبحاث عامة ۞ تبصرة المسلمين وكفاية المحبين => مؤلفات الشيخ القادري ۞ عقيدتنا بالشيخ الأكبر => مقالات الشيخ القادري ۞ حكم العتاقة الكبرى والصغرى => فقه التصوف والسلوك ۞ حكم السالك إذا لم يجد شيخا كاملاً => فقه التصوف والسلوك ۞ الوفاء لأهل العطاء (2) => مقالات وأبحاث عامة ۞ المنظومة الحذيفية => مؤلفات الشيخ القادري ۞ alkhlasaalhama-fr => Ouvrages en Français ۞ alrsalaalhzaifi-fr => Ouvrages en Français ۞ الطراز المذهب في مولد الباز الاشهب => مؤلفات الشيخ القادري ۞
المادة

فصل في بيان المنامات والرؤى

الكاتب: الشيخ مخلف العلي القادري

تاريخ النشر: 11-06-2022 القراءة: 3987

فصل في بيان الرؤى والمنامات

إن موضوع الرؤى والمنامات التي تتراءى للسالك سواءً كانت في الخلوة أم خارجها تعتبر اليوم من أهم الأمور التي شغلت السالكين، بخلاف السابقين الأولين فإنهم لم يكونوا يولونها اهتماماً كبيراً، لأنهم يعلمون خطورة الانشغال والتعلق بها، بقدر ما فيها من إشارات وإرشادات، وهي كلها ناتجة عن الخواطر الخمسة التي سبق ذكرها، فلا تعلم الصالح منها من غيره، وخاصة وأنت بمرحلة السلوك، فكان الأولى هو هجرها والابتعاد عنها وعدم إعطائها أي اهتمامٍ إلا عند الضرورات أو الأمور الواضحات، قال سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه في كتابه سر الأسرار: ومن آداب الخلوة عدم المبالاة لما يتراءى له من صدق الخاطر, فإن ذلك سمٌ قاتلٌ, فلا تنظر إلى غير مولاك, فإنك إن نظرت إلى سواه لم تنظر إلا إلى نفسك, ونفسك هي الحجاب عنه تعالى, فاهرب إلى الله تعالى يسعدك سعادة الأبد.

ولكي تعرف كيف تتعامل مع هذه الرؤى والمنامات سأبين لك أنواعها وأقسامها، وما هو المهم منها وما هو غير ذلك، ومتى تتحدث ومتى تصمت.

واعلم أنَّ الأصل في الخلوة عدم الانشغال بها، وعدم الحديث عنها، إلا إن سألك الشيخ عن مرائيك، وإلا فلا ينبغي أن تتحدث وتنشغل بكل ما تراه، وأما خارجها فهناك ما يُتَحَدث به وهناك ما يُصمت عنه، واعلم أن للرؤى والمنامات قسمين هما رؤى المنام ورؤى اليقظة، ولكل قسم منها أنواع سنبينها لك فيما يلي:

أقسام الرؤى والمنامات:

اعلم أن الرؤى والمنامات تنقسم إلى قسمين رئيسيين وهما: رؤى المنام ورؤى اليقظة، ولكل قسم منها خمسة أقسام رئيسية، وهذه الرؤى بمجملها منها ما هو رحماني ومنها ما هو شيطاني، منها ما هو حقيقي ومنها ما هو ضرب من الوهم والخيال، وقد دلت بعض الأحاديث الشريفة على هذه التقسيمات، ولم أخترعها من نفسي، فمنها ما رواه الترمذي وابن ماجه عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ الرُّؤْيَا ثَلاَثٌ: مِنْهَا أَهَاوِيلُ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ بِهَا ابْنَ آدَمَ، وَمِنْهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ فِي يَقَظَتِهِ، فَيَرَاهُ فِي مَنَامِهِ، وَمِنْهَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ)). ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ: ((إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثاً، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤْيَا ثَلاثٌ :فَالرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللَّه، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ .((ومنها ما رواه ابن ماجة في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ قَال: ((الرُّؤْيَا ثَلاثٌ: فَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ، وَتَخْوِيفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا تُعْجِبُهُ فَلْيَقُصَّ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلا يَقُصَّهُ عَلَى أَحَدٍ، وَلْيَقُمْ يُصَلِّي)).

وسنبدأ بتفصيل هذه الأقسام كاملة مع شرح كل قسم منها وبيان علاماته وكيفية التعامل معه إن شاء الله تعالى، فنقول وبالله التوفيق:

القسم الأول وهو رؤى المنام:

وهي ما يراها السالك في حال نومه وتنقسم إلى خمسة أقسام وهي:

أولاً: الرؤيا الصالحة:

وهذا النوع هو الأفضل والأعلى والأسمى وهي التي جاء ذكرها في الحديث الشريف الذي رواه البخاريُّ من حديث أبي سعيد، ورواه مسلمٌ من حديث أبي هريرة عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءاً مِنْ النُّبُوَّةِ))، وهذا القسم ينحصر في خمسة أمور تعتبر مصادر الإلهام والإرشاد والتوجيه النوراني وهي: رؤيا الله سبحانه وتعالى، ورؤيا النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم، ورؤيا الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ورؤيا الملائكة عليهم السلام، ورؤيا آل البيت والصحابة وسائر الأولياء والعارفين رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا القسم إن أكرمك الله تعالى ورأيت شيئاً منه، فحدث به شيخك، ولا تنشغل به الانشغال المذموم وهو ترك الأعمال وانشغال القلب منتظراً تفسير الرؤيا ومعرفة معناها، واحذر أن تعمل بشيءٍ من مقتضى رؤياك دون الرجوع لشيخك، وذلك لأمرين!

أولهما: احتمال الخطأ في تأويل الرؤيا واستنباط المراد والغاية، وفي ذلك تفوت على نفسك الخير وتقع في الشر، وتلقي بنفسك إلى التهلكة.

ثانيها: احتمال التمثل بهذه الرؤيا من قبل الشيطان والنفس ليفتناك، ويصعب عليك التمييز بين الرؤيا الحق والتمثل، ومن المعلوم أن الشيطان يتمثل في المنام واليقظة، لكن بالرجوع لشيخك تنجو فهو صاحب علم وبصيرة.

ثانياً: الرؤيا الشيطانية:

وهذه هي المنامات والأحلام الخبيثة التي تعتريك وتأتيك من قبل الشيطان وهي على ثلاثة أنواع وهي:

أولها: وهو أخطرها وهي الرؤى التي يتمثل فيها الشيطان لك في المنام بأحد أصناف الرؤيا الصالحة التي سبق ذكرها التي هي مصادر الإلهام والإرشاد ليضلك باستثناء التمثل بالنبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم فقد أجمع أهل العلم على عدم تمثل الشيطان به على هيئته الحقيقية، وقال بعض أهل العلم لا يتمثل بالأنبياء والمرسلين مطلقاً، وأما بغيره فيتمثل حتى برب العزة جل في علاه ليفتنك، فكن على حذر، وكما قلنا الأصل الرجوع للشيخ في هذا الحال للوقوف على الصواب.

ثانيها: وهو ما يريك إياه في منامك من شهوات الدنيا وملذاتها وخاصة النساء وفتنتها، وكذلك ما فيه إيحاءات وسموم لتشويه عقيدتك وأفكارك وهي قريبة من الخواطر التي سبق ذكرها فكن على حذر ولا تلتفت لأي شيء منها، وإن تكرر منامٌ خبيث عليك بخلوتك أو خارجها فحدث شيخك ليفيدك بكيفية الخلاص منه، ويعينك على ذكر الله تعالى.

ثالثها: وهو ما يريك إياه في خلوتك مما يورث عندك الخوف والقلق والانشغال على أهلك وأحبتك، وغايته من ذلك قطع الخلوة عليك وإخراجك منها، وكم قد رأينا من أحبة فرغوا أنفسهم للخلوة، وأعدوا عدتهم، وجهزوا أمتعتهم، وبعد يوم أو يومين خرجوا بسبب منام من هذا القبيل، فكن على حذر.

ثالثاً: الرؤيا العادية العابرة:

وهذه هي المنامات والأحلام التي تعتري سائر البشر، وهي منامات مختلفة، فقد يرى الإنسان في نومه أموراً كثيرة، منبعها العقل الباطن، فلا ينبغي للسالك أن ينشغل بأي شيء يراه في المنام من الناس والطبيعة والأحوال لأن ذلك من طبيعة البشر، باستثناء فترة عمله بخلوة أو رياضة الأنفس فربما يرى مرائي كثيرة تدل على دلالات كما بيَّن سيدي عبد القادر رضي الله عنه في كتاب الطريق إلى الله، والأولى عدم الانشغال بها أيضاً، وقد بينها الشيخ للسالك لكي لا ينشغل بها فيعرف الدلالات ويكف عن البحث والانشغال لكن الحاصل اليوم عكس ذلك، عافانا الله تعالى وإياكم, آمين.

رابعاً: رؤيا حديث النفس:

وهذه هي الرؤى والمنامات التي يراها السالك في حال انشغال نفسه بشيء ويلازمه هذا التفكير حتى يصبح هماً لازماً له، فالعاشق يرى معشوقه إذا هجع ونام، والخائف يرى عدوه، والمديون يرى المال، ومن هذا القبيل، ومن يوسوس بالسحر وغيره يرى ما يدل على أنه مسحور، فيجب أن يعلم السالك أن ما يراه حال انشغاله بشيء من أمور الدنيا، فهو حديث نفس، فلا ينبغي أن يقف عليه ويعول عليه، ويمرره مرور الكرام، لأن الشيطان إن رأى منك انشغالاً بهذا النوع يزيده عليك ليفتنك ويضلك، ويجب أن تعلم أن الرؤيا ترتبط بالمؤثرات النفسية والخارجية والعاطفية.

خامساً: رؤيا تمثل النفس:

وهذا النوع من أخطر الأنواع وهو أشدها غموضاً ويأتي في المنام واليقظة كما سنبين لاحقاً، وتكمن خطورته في أنه يتم بالتعاون ما بين النفس والشيطان، فالأصل من الشيطان والفعل الظاهر من النفس الخبيثة، وهي ما يراه السالك في منامه، وتدخل حتى برؤيا الصالحين، وهذه تصيب السالك في حال دخوله الخلوة بنية فاسدة، كالذي يدخل بنية الفتوحات والكرامات والخوارق والمنامات، فهذا يصبح فريسة سهلة للشيطان والنفس فيصبح يرى رؤى غالباً ما تكون غامضة فيصبح يبنيها على الشك والتأويل لنفسه، ويقنع نفسه بها، فيقول رأيت ورأيت ولم يرَ شيئاً، ثم يبدأ يرى منامات كلها متمثلة بما ينشغل به ويقصده، وهذه أخطر الرؤى، وهي مفتاح وبداية الاستدراج، ولذلك غالباً ما ننبه الأحبة والسالكين إلى ضرورة عدم الانشغال بالرؤى حتى لا يقع بهذا النوع فيصبح أسيراً لديه، وكم يأتيني سالكون يحدثونني برؤى فحينما أسمع وأبدأ بالتدقيق بالتفاصيل أكتشف أنها من هذا النوع من الرؤى، وأسوأ ما فيها أن السالك يقتنع بها ويصدقها تصديقاً كاملاً، بل تصل بالبعض أنهم يتركون شيوخهم إن لم يقتنعوا برؤياهم، وعلاج هذا هو عدم الانشغال بما يراه وإصلاح النية بين يدي ربه سبحانه وتعالى، فإن لم يستطع صرفها فليرجع لشيخه فهو الخبير به، والله تعالى أعلم.

القسم الثاني وهو رؤى اليقظة:

وهي ما يراه السالك في حال يقظته، أو يتمثل له، وغالباً ما يكون ذلك أثناء الذكر وخاصة في الخلوات والرياضات، وهذه الرؤى تنقسم إلى خمسة أقسام وهي:

أولاً: الرؤيا الحقيقية:

وهذه هي أعلى الدرجات، وهي أن يرى الإنسان ما يراه في حال يقظته بحواسه الحقيقية الظاهرة وحواس روحه وحواس قلبه، دون أي شك وريب في ذلك، كما رأى النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم الأنبياء والمرسلين في الإسراء والمعراج، ومنها رؤيا النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم ورؤيا الخضر عليه السلام، ورؤيا بعض الأنبياء والأئمة والعارفين، دون حجاب لأن أرواحهم قادرة على التمثل والتصرف، لكنه يراها حقيقة ببصره وبصيرته وكل ما يأتيه أثناءها يكون حقيقياً لا يختلف عن الحقيقة في عالمه.

ومن علامات هذه الرؤيا أنه لا يتأثر صاحبها بما حوله، فإن كان جالساً مع قوم يحدثهم أو كان ماشياً أو مهما كان حاله فهو ممكن أن يسمع ويتلقى ويتحدث مع من يراه ولا يشعر من حوله بهذا، ومهما حصل من حوله فلا يؤثر على حاله ورؤياه، سواء أغمض عينيه أم لا، سواء كان خالياُ أم بين الناس، فالحال واحد، لأنه عالم حقيقي كشف له بينما حجب عمن حوله.

لكن هذا النوع لا يكون للسالكين كما نسمع ونرى اليوم من قصص وحكايات، من كثرة من يدعون رؤيا النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم والأقطاب يقظة ويتلقون عنهم، بل هي خاصة بالأولياء الكمل، فكل من ادعى أنه يرى النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلم يقظة وليس فيه صفات الأولياء الكمل فهو مدعٍ مفترٍ على الله ورسوله صلى الله عليه وآلهِ وسلم، وكما بلغنا من مشايخنا أنها مختصة بالغوث والإمامين والأقطاب والأوتاد ولا تكون لمن هو دونهم وقيل إن الأبدال والنقباء يمكن أن يتحققوا بها، أما من هم دونهم فيرونهم لكن ليس الرؤيا الحقيقية بل هي الرؤيا الروحية التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً، وهذا النوع من الرؤيا تبنى عليه الأحكام في السلوك والإرشاد لمن تحقق بمقامها، وهذا كما قلنا حال الأولياء الكمل وهم قادرون على التمييز في حال محاولة الشيطان التدخل والتمثل لهم، لأنهم غير معصومين من هذا، فالشيطان تمثل للأنبياء والرسل ولكبار الأولياء، ويكفينا ما ورد عن الباز الأشهب قدس سره العالي أن الشيطان تمثل له يقظة برب العزة جل وعلا ليضله فنجاه الله تعالى، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فاحذر أيها المريد أن تخادع نفسك وتصدق أنك ممن يرى النبي يقظة أو الأئمة الكبار العارفين، فإنك إن كنت صادقاً فرؤياك ليست من هذه الدرجة، بل هي من درجات تأتي بعدها، وإن كنت كاذباً فاتق الله تعالى.

ثانياً: الرؤيا الروحية الكاملة:

وهذه الرؤيا تأتي بالمرتبة الثانية من رؤى اليقظة، وهي أن يرى السالك أرواح الأنبياء والمرسلين والأولياء والعارفين، لكن ليس بحواسه الظاهرة كما هو حال الدرجة السابقة بل يرى بحواس الروح وحواس القلب، فقط دون حواس الجسد، وقد تحصل في حال تغميض العينين وقد تحصل وهما مفتوحتان لكنهما بغياب عما حولها، فتكون شاخصة مركزة على شيء قد تمثل لها، ولقصور صاحبها تتأثر بأي طارئ يطرأ عليها، وهذه الرؤيا أكثر ما تحصل مع الصالحين والمشايخ والعارفين ممن يتحققون بالرؤيا الاولى وممن هو دونهم ممن تحقق بالولاية، وشملته الرعاية وحفظته العناية، وقد تحصل للسالكين المتحققين بالطريق الصادقين في الاتباع، كرؤيا المشايخ ممن انتقل، والأقطاب والمدركين والأئمة والعارفين، ورؤيا النبي صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ وآل بيته الكرام، ويمكن التلقي عنهم.

والفرق بينها وبين الأولى من حيث الرائي فالأول يرى رؤيا حقيقية كاملة لا تتأثر بما حولها، بينما هذه فرؤيا روحية قد تتأثر بما حولها فلو قطع عليك مجلسك أحد تنتهي، ولو تغير حالك تنتهي، وقد قرأنا عن الصالحين أن أهل الديوان منهم من يحضر بروحه وجسده، ومنهم من يحضر بروحه ويبقى جسده في حاله وهذا أعلى شأناً من الأول حيث إنه من أهل المرتبة الأولى إذ لديه القدرة أن يكون بمكانين في وقت واحد وهذا هو عالم المثال، وهو لا يتأثر بما حوله بينما الثاني لا يقدر أن يحضر مجلس الديوان وهو في مجلسه لأنه يتأثر بما حوله، وهنا يكمن الفرق بينهما من قوة الروح وقدرتها على التصرف، وهنا يظهر بطلان ادعاءات البعض ممن يدعون رؤيا اليقظة في أحوالهم، وعلامة هذه الرؤيا كما ذكرنا تأثرها بما حول الرائي، وضرورة التركيز والحضور الكامل لتحققها والعزلة كذلك والذكر والرابطة الشريفة، ويجب أن نعلم أن هذا النوع من الرؤى هو أكثر ما يتمثل به الشيطان وقد يتمثل لك مخادعاً إياك منتحلاً صفة الأولياء والصالحين ليضلك عن الحق، فكن على حذر كامل منه، فكم قد قرأنا من قصص في كتب القوم من إضلال الشيطان لبعض الأولياء الذين لم يبلغوا كمال الولاية، وكم ضل سالكون في هذا الباب، فاحذر أيها المريد وارجع إلى شيخك بأي شيء تراه أو يتمثل لك، ولا تثق بنفسك ولا بمن ترى حتى تستعيذ بالله تعالى منه ثم تتيقن من أنه حال صادق من الله تعالى، حتى لا تسقط في حفرة لا تخرج منها، واعلم أن أخطر ما في هذه الرؤى هو أن صاحبها يدمن عليها ويتعود عليها فيوقعه الشيطان بها فيضل ضلالاً بعيداً، واحذر أن تغير ورداً أو حكماً أو أي شيء إلا بعد الرجوع للشيخ المرشد فهو الأعلم والأدرى بك منك والله تعالى أعلم.

ثالثاً: الرؤيا الروحية القلبية:

وهذه الرؤيا تأتي بالمرتبة الثالثة وهي الرؤيا بحواس القلب دون حواس الجسد ودون حواس الروح، بل يرى بقلبه، والفرق بينها وبين التي قبلها أن الرؤيا الأولى والثانية تحضر الأرواح وتتمثل لك حيث أنت، بينما هذه الرؤيا فالروح هي التي تذهب لرؤيا العوالم الأخرى مستعملة حواس القلب في رؤياها، ولا بد من تغميض العينين لتحققها تحققاً كاملاً مع التركيز الكامل، وهذه غالبا ما تكون مع الأذكار والرابطة والاستمداد بأهل الله الصالحين.

وعلامة هذه الرؤيا أنها تتأثر بما حولها، وتتأثر بحال الرائي، فأي أمر طارئ يطرأ على مجلسه من دخول داخل أو كلامٍ أو طرق باب أو اتصالٍ تنقطع عنه، وفي حال تغير حاله من عدم التركيز أو الفتور أو الانشغال أو الوسواس قد تنقطع الرؤيا، وهذه غالبا ما تصيب السالكين في سيرهم وسلوكهم وهي متحققة بمن هم أعلى منهم درجة من الواصلين.

ومما يجب أن نعلمه أن هذه الدرجة من الرؤى هي ما يغوص به غالب السالكين اليوم، وهو مدخل الشيطان إليهم، بل جل هذه الرؤى تكون من حال الشيطان إلا من رحم الله تعالى، والسالك بيده يفتح للشيطان مدخلاً إليه وبيده يغلقه، وذلك لأن غالب السالكين اليوم يتصنعون بهذا الحال طلباً للرؤى فينتبه الشيطان لتعلقهم بها فيستدرجهم من هذا الباب، فليحذر السالكون من هذا الأمر، والمطلوب منك التزام آداب الذكر دون البحث عن هذه الرؤى والتعلق بها حتى لا يستدرجك الشيطان ويضع لك طعماً في طريقك، ويحفر لك حفرة تسقط فيها فلا تخرج منها إلا إلى خارج الخلوة، ليضلك عن الحق ويشغلك.

والواجب عليك أيها السالك في هذا النوع من الرؤى هو صرفها وعدم الانتباه لها وإن استطعت فلا تحدث شيخك بها، بل ادفعها ولا تنتبه لها كأنها لم تكن حتى تترقى لمقام تستطيع فيه التمييز بين الحق والباطل، لأن التمييز بينهما في هذه المرحلة صعب جداً.

بل ويجب على الشيخ أن يزجر المريد عنها في حال رؤيته متعلقاً بها، حتى لا يجعله فريسة سهلة للشيطان، لأن الشيطان إن رأى السالك تعلق بهذه الرؤى يبدأ باستدراجه بها شيئاً فشيئاً حتى يدخله في عالم من الرؤى والأوهام تؤدي إلى كل الأمراض والضلالات عافانا الله تعالى وإياكم.

رابعاً: الرؤيا حال السنة:

وهذه الرؤيا تأتي بالمرتبة الرابعة، وهي ما يراه السالك في تلك الحالة التي يفتر جسده فيها أثناء الذكر، وهذا حال يصيب أصحاب الخلوة والذاكرين، فتصيبه غفلة ويشتد به النعاس إما نتيجة التعب والإرهاق، أو لحكمة أرادها الله ليريه شيئاً، بحيث يكون الجسد هاجعاً مستسلماً لكن القلب مستيقظاً وهي حالة معروفة عند الجميع، وفي أثنائها قد يرى البعض رؤى تكون سريعة، ربما فيها إشارة، أو إرشاد، أو بيان، أو أمر، أو نهي، وقد لا يعي الرائي شيئاً منها، وهذه الرؤى يجب الحذر منه لأنه قد تكون من الشيطان وقد تكون من الرحمن والمطلوب من السالك صرفها وعدم التعلق بها، فإن كان بها شيء مهم رده إلى شيخه ومرشده، ويحذر من اتخاذ أي قرار أو حكم في سلوكه معتمداً عليها، وعلامتها الانقطاع حال الانتباه فوراً.

خامساً: رؤيا الخيال والتصور:

وهذه الرؤيا تأتي بالمرتبة الخامسة، وهي ما يراه السالك نتيجة تصوره لمشايخه وللحضرة النبوية أو نتيجة لتخيله، فتتراءى له بعض المرائي وهذا كثير الحدوث للسالكين وهناك فرقٌ بين التصور والتخيل من وجوه كثيرة لكن نبينها باختصار فيما يفيد مناسبة حديثنا، فالتصور هو استحضار صورة موجودة في الذهن والفكر ومثاله هو الرابطة الشريفة عند السادة الصوفية فهي عند العارفين تصور شيخك أو شبهه واستحضاره في العقل، وهو أمر محمود وفيه شحذ الهمة على العمل وتتحصل منه القوة الروحية للسالك باتصاله بالأنوار الناتجة عن هذا التصور المرافق للاستمداد الروحي من مشايخه ومن الحضرة النبوية الشريفة، أما التخيل فهو تدفق الأفكار والصور التي يخلقها عقلك الباطني وقد تكون مبنية على صورة حقيقة وغالبا تكون مختلقة، مع التركيز الكامل والاسترخاء الفكري فيصبح المتخيل يستشعر أموراً ويتفاعل معها عقله ونفسه، ثم بعد ذلك يحولها من التخيل إلى التصور ويصدقها ويقنع نفسه بأنها حقيقية، ومن أمثلة هذا استجلاب الطاقة النورانية من مصادر الطاقة، وله قانون عند علماء الطاقة يسمى بالتأمل عندهم، ويجب أن نعلم أن التصور قد يتمثل به الشيطان ليخترق إلى السالك، لذا يجب أن يكون حذراً جداً من التصور ويلتزم بما يعطيه شيخه من تعاليم وإرشادات، ويعلم أن الغاية منه هو الاستمدادات الروحية النورانية ولا يبني عليها أحكاماً وإرشادات تكون بالأصل نابعة عن تخيل، لذلك يجب ألاَّ يستغرق السالك بالتصور إن بدأ يجره للتخيل والاختلاق. أما التخيل فهو يكون محموداً إن بقي محدوداً ضمن استجلاب الفرح والسرور واستجلاب الطاقة النورانية، واستجلاب الهمة للطاعة، والاستعانة في دفع الوساوس والخواطر السيئة، ولكن إذا ما أطلق له العنان كان خطراً شديداً، فعندئذ تدخل النفس على السالك بإيعاز من الشيطان فتقنعه من داخله بتحويل ما يتخيله لحقائق فيبدأ يتخيل قصصاً وصوراً للأنبياء والرسل والأولياء ويتخيل حوادث وقصصاً كثيرة، حتى تصبح همه وشغله، وينشغل بها ويشغل الآخرين، وهذا ما يعانيه أكثر أهل الادعاء والملبس عليهم اليوم من مشايخ وسالكين، فكل يوم نسمع من يدعي رؤيا النبي الكريم صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ يقظة ويجتمع مع كل الأولياء والعارفين وقت ما يشاء، ومن خلال التجربة رأيت أن هذا النوع الأخير من الرؤى هو الغالب على حال السالكين اليوم إلا من رحم الله تعالى، واعلم أن رؤى التصور إن كانت حقاً فلها علامات وإن كانت غير ذلك فعلاماتها نفس علامات التخيل، أما علامات التصور الحق فهي:

1) الاطمئنان والسكينة أثنائها وبعدها.

2) تترك همة وقوة نورانية وإقبالاً على العمل عند السالك.

3) تورثه حسن الأخلاق وكمال الآداب وحسن التعامل.

4) عدم الانشغال والتعلق بها والإشهار بها، بل تعطيه شعور الاستئناس.

5) لا يقدمها على آداب وتعاليم الإرشاد الظاهر الذي يتلقاه من شيخه.

أما التخيل فإن كان من النوع المحمود الذي ذكرناه فإنه يتحقق به ما يريده منه كما ذكرنا من شحذ الهمة والطاقة ودفع الوساوس، أما التخيل المذموم فله علامات واضحة يعرف به صاحبه وأهمها:

1) نشوة النفس التي ترافقها، مع التعلق الشديد بها، والرغبة بالحديث بها لكل الناس، بل لا يترك فرصة يتاح له الحديث فيها إلا تحدث عنها.

2) تقديم كل ما يأتيه خلال التخيل على التعاليم الظاهرة المشهورة عند السادة الصوفية والمجمع عليها، وتعميم هذا على غيره.

3) الغضب الشديد والانفعال عند انقطاع التخيل بسبب أي طارئ، والخصومة لكل من لا يصدقه ويقتنع برؤياه ويسلم له بما يراه.

4) ادعاء التلقي والترقي من النبي الكريم صَلَّى الله عَليْهِ وآلهِ وسَلَّمَ والصالحين، ثم يعقب هذا ادعاء المشيخة والإرشاد مع ادعاء الإذن الباطني.

5) قلة الأعمال من عبادات وسنن وأذكار، واعتماد الأحوال القلبية، ومخالفة الشريعة وقواعد طريق القوم بل يوجد لنفسه قواعد جديدة.

تنبيهات مهمة حول الرؤى والمنامات

أخي السالك قد بينت لك فيما سبق ما يهمك بخصوص الخواطر والرؤى، وأحببت أن أبين لك ببعض الملاحظات المهمة لعلك تفهم الخلاصة: فاعلم أن الأصل في كل الخواطر والرؤى عدم الالتفات لأي شيء منها بل الواجب دفعها على الدوام لأنها ليست الغاية بل هي إما مكرمات او إشراقات أو ابتلاءات أو اختبارات، فأرح قلبك منها تسلم، واعمل جاهداً على صرف جميع الخواطر والواردات والمنامات خيرها وشرها، ظاهرها وباطنها، ما تعرف منها وما تجهل، فالخير يشغلك والشر يؤذيك، ولا تتبع شيئاً منها إلا بأمر شيخك وتوجيهه، ويجب عليك عدم اشغال شيخك بمرائيك وخواطرك والأصل ألاَّ تحدثه إلا إن سألك فإن عجزت فحدثه بالمختصر ولا تكرر الحديث عليه، واعلم أن الشيطان والنفس قد يدخلان في كل الرؤى والخواطر بكل أنواعها، فالرؤى والخواطر منها الخير ومنها الشر فكن على حذر دائم ولا تثق بنفسك، واحذر أن تغتر وتعجب بما يحدث معك من فتوحات يكرمك الله بها في الخلوة وانظر إلى أنَّ الأمور كلها من الله عز وجل، ولا تنشغل بما يحدث معك من أمور سيئة وظاهرها الشر ويجب أن تعلم أن كل أمر فيه خير فهو من الله، وكل أمر فيه شر من نفسك والشيطان، واحذر أن تحدث احداً غير شيخك بما تراه ويعتريك في الخلوة من أحوال، بل اصمت فالناس إما حاسد أو مكذب أو مبغض كإخوة يوسف، ويندر وجود الأخ الصالح المحب، واعلم أن كثرة الحديث عن الأحوال سبب في ذهابها، كما ننبهك إلى عدم تغيير شيءٍ من برنامج عملك، أو تنقص منه شيئاً، أو تزيد عليه شيئاً، بناء على ما تراه في منامك أو يقظتك بدون الرجوع لشيخك، فهذا من المهلكات للسالكين، وكم قد هلك من السالكين ممن سار وراء اجتهاده معتمداً على أحواله.

ومما يجب أن تعلمه وتؤمن به ويتحقق في قلبك وعقلك ونفسك وروحك هو أن كل ما حققته في خلوتك، وكل ما فتح الله به عليك، وكل ما قدمته من عبادة وأذكار واجتهاد وقربات، إنما هي بتوفيق الله عز وجل لك، وليس بجهدك واجتهادك، إنما برحمة الله وتوفيقه لك، ثم بعملك وجهدك بعون الله ومدده لك، فلولا رحمة الله وتوفيقه لما قدرت أن تصلي ركعتين، ولا تذكر كلمتين، فليكن حالك دائماً ما بين الرجاء والخوف، وما بين الشكر والاستغفار.

نقلاً عن كتاب

العقد الفريد في بيان خلوة التوحيد

للشيخ مخلف العلي الحذيفي القادري

حقوق النشر والطباعة محفوظة للمؤلف